مراكز البحوث الاستراتيجية والتغيرات العالمية العالمية بقلم : السيد يسين

من طرف ktkt السبت يناير 31, 2009 1:59 pm

مراكز البحوث الاستراتيجية والتغيرات العالمية العالمية
بقلم : السيد يسين

نظم
مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء في مصر مؤتمرا دوليا مهما
يومي‏17‏ و‏18‏ يناير‏2009‏ بعنوان‏:‏ دور مراكز الأبحاث
الاستراتيجية‏ThinkTanks‏ في الدول النامية‏,‏ التحديات والحلول‏.‏

وقد
شارك في المؤتمر نخبة من المفكرين الاستراتيجيين الذين يمثلون مراكز بحوث
استراتيجية متعددة من الشرق والغرب علي السواء‏.‏ وقد اخترت أن يكون
الموضوع الذي سأطرحه للنقاش هو تأثير التغيرات الأساسية في المجتمع
العالمي علي أجندة البحث في مراكز البحوث الوطنية‏

وقد أردت في
الواقع أن أقدم شهادتي علي خبرتي الممتدة منذ عام‏1957‏ حين التحقت باحثا
مساعدا بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مرحلة أولي‏,‏ الي
عام‏1975‏ حين انتقلت لأصبح مديرا لمركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية حتي عام‏1995,‏ ومنذ هذا الوقت وأنا مستشار لهذا المركز
العتيد‏.‏

لقد أردت أن أميز في الواقع منذ البداية بين مراكز البحث
الاستراتيجي الوطنية والأجنبية‏,‏ ليس من منطلق شوفيني‏(‏ فيه تركيز مبالغ
فيه علي الذات الوطنية‏)‏ ولكن علي أساس ان مشكلاتنا البحثية في مصر لها
طبيعة مختلفة‏,‏ كما أنها قد تحتاج الي مناهج علمية غير التي تطبقها
المراكز الأجنبية‏,‏ نصوغها من خلال الخبرة النظرية النقدية والممارسة
العملية‏

‏ بدأت خبرتي الأكاديمية بالمركز القومي للبحوث
الاجتماعية والجنائية الذي أسسه عام‏1956‏ أستاذنا الراحل الدكتور أحمد
خليفة والذي يعد رائد مراكز البحوث الاستراتيجية في الوطن العربي‏,‏ والذي
كان يضم ـ حين التحقت به عام‏1957‏ ـ عددا محدودا من الباحثات والباحثين
المختارين بعناية بعد ان اجتازوا امتحانات قبول صعبة‏.‏

اكتشفنا ـ
مجموعة الباحثين الناشئين وقتها ـ بعد أن تعمقنا في دراسة علم الاجتماع
الأمريكي علي الخصوص والذي كان هو النموذج العلمي السائد بحكم تعدد مدارسه
العلمية وتنوع نظرياته وثراء بحوثه العلمية‏.‏ أننا نحتاج في الواقع الي
أن نكون رؤية للعلم الاجتماعي بشكل عام‏,‏ لاكتشافنا أن الايديولوجية
تختلط اختلاطا شديدا بالعلم‏,‏ بمعني أن اتجاهات الباحث العلمي السياسية
التي قد لا يعبر عنها بشكل صريح قد توثر علي مسار بحوثه العلمية‏,‏ سواء
في وضع المشكلات أو في تفسير نتائج البحوث العلمية‏.‏

علي سبيل
المثال رفض علم الاجتماع الأمريكي المقولات الماركسية في التحليل الطبقي
الذي يقوم أساسا علي دراسة ظاهرة الاستغلال في المجتمع التي تقوم بها
الطبقة البرجوازية علي حساب طبقة العمال أو البروليتاريا في المصطلح
الماركسي‏,‏ ومن هنا كان تركيز الباحثين العلميين اليساريين علي دراسة
ظواهر الصراع الطبقي في المجتمعات الصناعية‏.‏

في حين أن علماء
الاجتماع الأمريكيين اليمينيين في إطار رفضهم لهذا التحليل الماركسي الذي
كان يقوم علي التمييز بين الطبقات ابتدعوا ـ للابتعاد عن مصطلح الطبقة ـ
مفهوما آخر هو الشريحة الطبقية‏Strata,‏ كما ابدعوا نظرية جديدة هي
التدريج الاجتماعي حتي تحل محل نظرية الصراع الطبقي‏

‏وفي اطار
التدريج الاجتماعي هناك ـ كما زعموا ـ‏12‏ شريحة طبقية علي الأقل مشتقة من
التقسيم الثلاثي الشهير‏:‏ الطبقات العليا والوسطي والدنيا‏,‏ حتي يتحاشوا
ظاهرة الصراع الطبقي بين المستغلين‏(‏ بكسر اللام‏)‏ والمستغلين‏(‏ بفتح
اللام‏)!‏

في ضوء إدراكنا العميق لأهمية استخلاصه العلمي من
الايديولوجي في الخطاب السوسيولوجي وسعينا لإقامة علم اجتماعي نقدي رفضنا
نظريات تالكوت بارسونز عميد علم الاجتماع الأمريكي من الخمسينيات حتي
اواخر السبعينيات ورائد المدرسة الوظيفية لأنه كان في الواقع مفكر المؤسسة
الرسمية الأمريكية‏,‏ الذي يضع لها الخطط لقمع حركات الاحتجاج الجماهيرية
في أمريكا‏,‏ سواء بين العمال أو الطلبة وخصوصا أيام حرب فيتنام‏‏ وفضلنا
نظريات عالم الاجتماع الأمريكي الماركسي س‏.‏ د‏.‏ ميلز الذي قدم بحوثا
اصيلة لتشريح المجتمع الأمريكي وإبراز مشكلاته الحقيقية‏.‏

في
عام‏1975‏ انتقلت لكي أصبح مديرا لمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية
مزودا بخبرتي السابقة في المركز القومي‏,‏ ولذلك حاولت أن أصوغ نظرية
نقدية للدراسات الاستراتيجية‏,‏ قد تعبر عنها المقدمة التي صدرت بها
التقرير الاستراتيجي العربي الذي اسسته عام‏1978‏ بعنوان نحو رؤية عربية
للدراسات الاستراتيجية‏.‏

لقد حرصت في العنوان الذي اقترحته لهذا
التقرير الذي يصدر بانتظام حتي الآن والذي يعتبر عالميا أبرز تقرير
استراتيجي عربي معاصر علي تأكيد موضوع العروبة‏,‏ لأننا باحثون مصريون
نؤمن إيمانا عميقا بالقومية العربية‏,‏ وبذلك أصبحت المشكلة بالنسبة لنا
في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام ليست هي بناء علم اجتماع نقدي‏,‏
ولكن كيف نوفق بين الالتزام القومي والموضوعية العلمية‏.‏

وفي
تقديري أننا وجيلي من الخبراء الاستراتيجيين الذين ساعدوني علي إعادة
تأسيس المركز ليصبح منبرا علميا للدفاع عن المصلحة القومية كما وصفه عالم
السياسة الأمريكي بيكر في كتابه‏(‏ مصر بعد السادات‏)‏ بمعني ممارسة النقد
الذاتي للممارسات العربية في نفس الوقت الذي ندافع فيه من خلال تحليل علمي
صارم عن المصلحة القومية العربية كما ندركها في خضم الصراع الدولي العنيف
الذي دار طوال حقبة الحرب الباردة‏,‏ وفي سياق المعارك الكبري التي خاضها
الوطن العربي دفاعا عن استقلاله ورفضا للهيمنة الغربية‏.‏

استقرت
هذه التقاليد البحثية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
واستمرت مع تغير القيادة العلمية في المركز‏,‏ الي ان برزت العولمة
بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية‏.‏

وأصبحت
المرحلة الجديدة تطرح علي مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية وعلي
المراكز العربية المشابهة سؤالا جديدا هو‏:‏ كيف تضع أجندة البحث في ضوء
التغيرات الكبري التي لحقت ببنية المجتمع العالمي؟

طرحت علي نفسي
هذا السؤال مبكرا منذ عام‏1990‏ حين انتقلت الي عمان لمدة عامين لأشغل
منصب أمين عام منتدي الفكر العربي وهو مركز أهلي اقامه المثقفون العرب
برئاسة الأمير الحسن بن طلال ولي عهد الأردن السابق ليكون مركزا
استراتيجيا للتفكير‏.‏

وفي إجابتي عن هذا السؤال المحوري أيقنت
حاجتنا الي رسم خريطة معرفية للتغيرات العالمية‏,‏ وأصبح هذا هو مشروعي
العلمي الجديد الذي بدأ بعد سلسلة أبحاث متصلة في كتابي الذي صدر عن مركز
الأهرام للدراسات الاستراتيجية عام‏1995‏ بعنوان الثورة الكونية‏:‏ حوار
الحضارات في عالم متغير‏.‏

وقد أتيح لهذا المشروع أن يتبلور في
كتابي الذي أصدرته عن دار نهضة مصر بالقاهرة عام‏2008‏ بعنوان الخريطة
المعرفية للمجتمع العالمي‏:‏ من المجتمع الصناعي لمجتمع المعرفة‏.‏

أما
الصيغة النهائية لهذه الخريطة المعرفية فيضمها كتابي الجديد الصادر عن دار
نشر ميريت بعنوان شبكة الحضارة المعرفية‏:‏ من المجتمع الواقعي الي الفضاء
المعلوماتي ولعل السؤال الذي ينبغي اثارته الآن ما هو‏:‏ التغيرات
العالمية التي ستؤثر في هذه المرحلة علي عملية اختيار أجندة
البحوث‏agendaSetting‏ في هذه المرحلة؟

لقد أجملت هذه التغيرات
الكبري في خمسة هي‏:‏ الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي الي نموذج مجتمع
المعلومات العالمي‏,‏ والانتقال من الحداثة الي العولمة‏,‏ ومن مجمتع
الأمن النسبي الي مجتمع المخاطر‏,‏ ومن نموذج الأمن القومي التقليدي الي
نموذج الأمن القومي المعلوماتي‏,‏ وأخيرا بروز معالم نموذج حضاري جديد‏.‏

وبغض النظر عن تفاصيل هذه التغيرات‏,‏ فإن عملية الانتقال من الحداثة الي العولمة هي أهمها علي وجه الاطلاق‏.‏

والعولمة
ـ في التعريف الاجرائي الذي وضعته لها منذ سنوات في كتبي المتعددة في
الموضوع ـ هي سرعة تدفق المعلومات والأفكار والسلع ورؤوس الأموال والخدمات
والبشر من مكان لمكان آخر في العالم بغير حدود ولا قيود‏.‏

والعولمة
لها تجليات سياسية واقتصادية وثقافية وهذه التجليات بالذات هي التي جعلت
الاجماع بين الخبراء والباحثين في مركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية ينتهي لأنه ظهرت اختلافات سياسية واسعة المدي حول طرق
مواجهة تجليات العولمة المختلفة‏,‏ والاتجاهات إزاء كل واحدة منها‏.‏

تجليات العولمة السياسية تتمثل في الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الانسان‏.‏

وإذا
كان هناك اتفاق بين الباحثين علي هذه الشعارات فإن الاختلافات الجسيمة
ظهرت فيما يتعلق بتعريف كل مصطلح وتحديد طرق الوصول الي تحقيق هذه الأهداف
التي قد لا يكون هناك خلاف بشأنها‏.‏

هناك من يؤمنون بتحقيق
الديمقراطية الغربية علي الطريقة الأمريكية‏,‏ وظهر أن هناك باحثين يميلون
الي المفهوم الإسلامي للديمقراطية والذي قد يكون هو الشوري‏.‏

كما
أن هناك خلافا آخر بالغ الحدة بين من يؤمنون باستخدام الضغوط الغربية وفي
مقدمتها الضغوط الأمريكية السياسية والاقتصادية علي النظام السياسي المصري
لتحقيق الديمقراطية وبين من يرفضون هذا التدخل الأجنبي في الشئون الداخلية
المصرية‏.‏

أما في تجليات العولمة الاقتصادية فهناك من يريدون
تطبيق مبادئ الليبرالية الجديدة التي تعتمد علي تقليص تدخل الدولة في
الاقتصاد وترك المسألة بالكامل لحرية السوق بزعم انها تستطيع إدارة نفسها
بنفسها من خلال آلية العرض والطلب‏.‏

وهناك علي العكس من يرون
ضرورة أن يكون للدولة دور أساسي في عملية إدارة الاقتصاد ولو من باب
ممارسة التخطيط التأشيري وعدم ترك المواطنين ضحايا للسوق الرأسمالية
المتوحشة في عصر العولمة‏.‏

وهناك خلافات واسعة المدي أيضا بين أنصار الثقافة الكونية‏globalCulture‏ والمتحمسين للدفاع عن الخصوصية الثقافية‏.‏

وأخيرا
فيما يتعلق بالنموذج الحضاري البازغ هناك من يدافعون عن القيم الدينية لكي
تكون هي محور هذا النموذج وهناك من يدافعون عن القيم العلمانية‏.‏

وهكذا
بعبارة موجزة استطاعت العولمة بتجلياتها المختلفة ان تقضي علي الاجماع
البحثي الذي ساد طوال السبعينيات والثمانينيات وأصبحت أجندة البحث تسودها
اتجاهات عولمية صاعدة مخلوطة ببعض الاتجاهات الاشتراكية المتوارية‏,‏ التي
ترفع ـ بحياء وخجل ـ شعار العدالة الاجتماعية في مواجهة قيم التراكم
الرأسمالي‏,‏ والأرباح الخيالية التي يحققها رجال الأعمال‏,‏ والنزاعات
الاستهلاكية المتطرفة التي تسبح في محيط من الإفقار المتزايد‏!‏