في حب عبدالفتاح الجمل بقلم :يوسف القعيد

من طرف trm tarm الإثنين فبراير 02, 2009 2:01 pm

في حب عبدالفتاح الجمل
بقلم :يوسف القعيد

الحق
أقول لكم إن مخطوط هذه الرواية كما كتبه المؤلف بخط يده تحفة فنية‏.‏ تحكي
وتقول كيف كان عبدالفتاح الجمل يحب الكتابة‏.‏ وانه كان يكتب لأن الكتابة
تسعده‏.‏ وقد رأيت هذا المخطوط علي مكتب سيف سلماوي‏.‏ ومعه خطاب من أحمد
الزيادي يطلب طباعة الرواية في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي‏.‏
ولكن رواية‏:‏ محب‏.‏ وكان عنوانها في أصل المخطوط محبات ـ وبالمناسبة
العنوان الثاني أجمل من الأول ـ هذه الرواية صدرت وقتها عن روايات
الهلال‏.‏ وأخيرا صدرت من جديد سلسلة جديدة في دار الشروق عنوانها‏:‏ نصوص
متميزة‏.‏ سلسلة تعني بنشر النادر أو المنسي من الأدب المتميز والممتع
والذي شكل علامات مهمة في مسيرة الأدب العربي الحديث‏.‏ وعبدالفتاح
الجمل‏.‏ صاحب هذه الرواية ـ لمن لايعرف من الأجيال الطالعة في الكتابة
الأدبية المصرية ـ هو الرجل الذي قدم لنا فرص النشر والحدب والرعاية
والعناية عندما كنا في أمس الحاجة اليها‏.‏ طوال عقد ستينيات القرن
الماضي‏.‏

كان مكتبه في جريدة المساء هايد بارك أدبي وثقافي لكل من
تردد عليه‏.‏ بودي الاسترسال في الكتابة عن عبدالفتاح الجمل الذي كان يأخذ
من الواحد منا قصته‏.‏ وإن وجد فيها ما يثير الدهشة‏.‏ وما يحقق المغامرة
الابداعية ينشرها فورا‏.‏ وعلاقته بالأمر لا تخرج عن النص الذي أمامه‏.‏
كان يقرأ ويقرر وينشر بل ويخرج الصفحة الأخيرة من الجريدة بنفسه‏.‏ وهكذا
سبقت كلمة‏:‏ بقلم اسمي وعمري لم يتعد الخامسة والعشرين‏.‏

روايته
البديعة محبات أو محب حسب العنوان المنشورة به‏.‏ تجد فيها عبدالفتاح
الجمل كأنه يحدثك من وراء الغيب‏.‏ من قبل قال لي محمد عبدالحليم
عبدالحليم إن الروائي الجيد هو الذي يختلف تدوين قلمه عن نطق لسانه‏.‏
ولكن الدكتورة فاطمة موسي قالت لي ـ بعد ذلك بسنوات ـ ولايشكل كلامها ردا
علي ما قاله عبدالحليم عبدالله‏.‏ إنه إن تطابقت المفردات واللازمات بين
كتابة الروائي وكلامه‏.‏ لماذا ينشر نصه في كتاب؟ لماذا لايسجله بصوته في
كاسيتات لتسمع بدلا من قراءتها؟

ترك لنا عبدالفتاح الجمل كتابة
فريدة مع العلم بأن الرجل قضي من سنوات عمره في اكتشاف المواهب ومنحها
الفرصة ولم يلتفت لنفسه ويستجيب لوجع الكتابة‏.‏ ولذلك فإن نصوصه التي
تركها قليلة ومنها هذه الرواية التي صدرت أخيرا‏.‏ بطبعة جديدة‏,‏ ولكن
إبراهيم المعلم يفضل ان يكتب‏:‏ طبعة دار الشروق الأولي‏.‏

في
إهداء لأخيه الحاج علي يوقعه بعبده وليس عبدالفتاح‏.‏ وعبده هو النطق
العامي لعبدالفتاح‏.‏ وفي الرواية هوامش يقدم المؤلف خلالها معلومات قد
يري أنه لو أتي بها في سياق الحكي لأوقفت تدفقه‏.‏ وشكلت نتوءات تؤثر علي
سلامة الحكي وعذوبته‏.‏

تبدأ الرواية هكذا‏..‏
ـ
حدثوا في رواية متواترة‏.‏ إن مصر كانت تتفسح في شماليها الأقصي‏.‏ وقيل
تعس وتتفقد الاحوال‏.‏ وتتعرف إلي خلق الليل والنهار‏.‏ وقيل ـ وهو الأرجح
ـ تمشي رجليها وقد خدرتا من طول خلود‏.‏

في هذه الرواية الفريدة
يجري عبدالفتاح الجمل حواره بلغة جديدة لم يسبقه اليها احد حتي الذين
حاولوا الاجتهاد في مواجهة الازدواج اللغوي بين الفصحي والعامية باعتبارها
لهجة من لهجات الفصحي‏.‏ وليست لغة أخري موازية للفصحي‏.‏

كتابة
عبدالفتاح الجمل فصيحة ومع هذا عند نطقها يمكن ان تكون عامية وهكذا حل
معضلة استنطاق الأبطال عندما يتكلمون خاصة إن كان الكاتب يكتب عن أبطال
أميين مثل الفلاحين في القري والعمال في المدن‏,‏ إنه يحقق معادلة نادرة
في الكتابة يرفع الأبطال لمستواه دون الهبوط اليهم وهذا يجعله محصنا ضد
الافتعال‏,‏ والعدوان علي شرط الصدق الفني الذي يجب ألا يكون فوتوغرافيا
ومن شدة عذوبة هذه الرواية فإنها تستعصي علي التلخيص‏.‏

في آخرها
دراسة لبدر الديب وقد عملا معا في جريدة المساء‏.‏ فترة تولي بدر الديب
رئاسة تحريرها يضع يده علي ثلاث مزايا لهذا لنص أولاها رؤية خاصة متفردة
للجسم الإنساني وللحياة البشرية داخل الطبيعة بمظاهرها المتعددة‏,‏ توحد
بين الإنسان وبيئته‏.‏ إن وراء هذا التوحد محبة فريدة ومعرفة عميقة بالنفس
البشرية وبالطبيعة في جميع صورها‏.‏ وثانيتهما طبيعة الجملة الفنية عند
الكاتب‏.‏ والتشبيه والاستعارة والكتابة‏.‏ إن فن عبدالفتاح الجمل يعتبر
الحواس الخمس الطريق الأصلي للمعرفة‏,‏ إنه يلمس اللون ويسمع الرائحة
ويستطعم المنظر ويذوقه‏.‏ يزن الحركة بجميع الحواس ويحيل الفكر والعاطفة
والشعور الدفين إلي محسوسات تجريبية والثالثة أن الكاتب يحاول ـ دائما
وأبدا ـ أن يمسك بالحياة وأن يصنع بالفن حياة موازية لها‏.‏

إن
سيرة محب عمل روائي فريد يمسك بالحياة وبالطبيعة إمساكا يجعل الحياة
طبيعية والطبيعة حياة ويحول كلتيهما معا إلي مادة فنية واحدة تتلقاها
النفس فتعيشها لتبقي فيها‏.‏ وكأنها تجربة مباشرة أو ذكري عزيزة غائرة‏.‏

هل
أشكر من جديد من نشروا هذا العمل ووفروا لي متعة أصبحت شديدة الندرة في
هذه الأيام؟‏!‏ متعة الاستمتاع بقراءة نص بكل هذا الجمال‏.‏ واستعادة
إنسان مهما قلت لن أوفيه حقوقه علي‏.‏ وعلي جميع من يتصدرون الكتابة
الأدبية في مصر الآن‏.‏