ضحي بكل شيء‏!‏ بقلم‏:‏ أحمد عبدالمعطي حجازي

ضحي بكل شيء‏!‏
بقلم‏:‏ أحمد عبدالمعطي حجازي
ما الذي صنعه دون كيشوت بعد أن أغمد سيفه‏,‏ ونزل عن صهوة جواده‏,‏ وكف عن الغناء؟

والسؤال ليس عن بطل سرفانتس‏,‏ ولكنه عن محمود أمين العالم الذي رأيناه في قصيدته أغنية دون كيشوت الأخيرة يتخلي عن كل ما يمكن ان يميزه عن غيره من أبناء شعبه أو يشغله عنهم‏,‏ الشعر الذي يكتفي به الشعراء عن الفعل‏,‏ والعنف الذي يلجأ اليه المغامرون الأفراد ليغيروا النظم الفاسدة بضربة تصيب أوتخيب‏,‏ بدلا من أن يخوضوا مع الجماهير البسيطة نضالها الصعب الطويل ويصلوا معها لما تتمناه وتصبو اليه‏,‏ فالعدل الحق لايقف عند حد التسوية بين الناس‏,‏ وإنما يتجاوز هذا الحد الي ايقاظ أرواحهم‏,‏ وتفجير طاقاتهم الخلاقة التي تجعلهم مشاركين فاعلين يفكرون لأنفسهم‏,‏ ويبنون مستقبلهم بأيديهم‏,‏ وهذا هو الطريق الذي سار فيه محمود أمين العالم‏.‏

لم يهجر الشعر كله‏,‏ ولكنه هجر شعر القول الي شعر الفعل‏,‏ فأصبح يناضل في سبيل العدل الذي كان من قبل يحلم به‏,‏ وفي هذا النضال الذي خاضه بكل ما يملك من طاقات وجد نفسه يتحول من شاعر الي ناقد‏.‏

الشعر رؤيا‏.‏ والنقد تأويل أو تفسير لهذه الرؤيا يساعد علي تحقيقها‏.‏ من هنا يبدأ كل عصر أو كل خلق جديد بالشعر‏.‏ يبدأ حلما أو خيالا أو نبوءة لا تتحقق إلا بوعي واضح صريح يفسر لنا الرموز والصور‏,‏ ويكشف عما يصلها بالواقع الحي الذي نعيشه‏,‏ وإذا كانت الثقافة المصرية في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي تعبيرا عن وثبة جديدة وعن أفكار ورؤي ثورية‏,‏ فنحن نستطيع ان نعتبر هذه المرحلة مرحلة شعرية بالمعني الواسع للشعر‏,‏ أي بما هو أحلام ونبوءات تعبر عن نفسها في القصيدة أو في أي نوع أدبي اخر‏,‏ ونحن نستطيع بالتالي ان نفهم حاجة هذه المرحلة الشعرية إلي وعي نقدي يبلور شخصيتها‏,‏ ويعرف بغاياتها ووسائطها‏,‏ ويكشف عما يصلها بالمراحل السابقة وما يميزها عنها‏,‏ وسوي ذلك مما يحتاج لمعرفته الكاتب المنتج ليكتب بوعي‏,‏ والقارئ المتلقي ليقرأ بوعي‏,‏ لاسيما والكاتب هنا ليس مجرد كاتب‏,‏ والقارئ ليس مجرد قارئ‏,‏ وإنما هما مناضلان يسعيان معا لبناء حياة جديدة تحقق للناس ما يطمحون اليه من الحرية والعدل والتقدم والرخاء‏.‏

ونحن نعرف أن جيلا جديدا من الشعراء والكتاب المصريين ظهر في أربعينيات القرن الماضي‏,‏ وواصل السير في الطريق الذي بدأه رواد النهضة المصرية‏,‏ وخطا خطوات أبعد مما وصل اليه هؤلاء‏.‏

اللغة التي كانت لاتزال في أول القرن لغة نقل وتقليد لم تتخلص تماما من تأثير عصور الانحطاط أصبحت أقرب للسليقة‏,‏ وأكثر تمثيلا لمصر وتعبيرا عن العصر‏.‏

والأشكال الأدبية المقتبسة التي كان الرواد يجربونها علي استحياء ويشعرون فيها بالاغتراب كالرواية والقصة والمسرحية طوعها الجيل الجديد وأصبح يتصرف فيها تصرف المالك لا المستأجر‏.‏

والحوار الذي لم يكن موجودا بين الثقافة العربية والثقافات الاوربية الحديثة أصبح أساسا للتفاهم والانتماء لإنسانية واحدة‏,‏ واتسع مجال الرؤية والحركة أمام الكتاب والشعراء‏.‏

والثقافة التي كانت مجرد حرفة لكسب الرزق أصبحت ضميرا ورسالة‏,‏ والأدب الذي كان مجرد لعب شكلي واستعراض للمهارة واعادة صياغة للنصوص القديمة المحفوظة أصبح طريقا لمعرفة الحقيقة واكتشاف الواقع الحي والتغلغل في أعماقه‏.‏

هكذا ازدهرت القصيدة المصرية وتطورت وتعددت أشكالها ولهجاتها ومذاهبها بالتجارب التي قدمها الكلاسيكيون وشعراء الديوان‏,‏ وشعراء أبوللو‏,‏ والشعراء الجدد في الشعر المسرحي‏,‏ والشعر المرسل‏,‏ وشعر اللجهة الدارجة والشعر المنثور والشعر الحر‏.‏

وتمصرت الرواية وخرجت من عالم الماضي والترجمات التجارية الرديئة لتتغلغل في أحياء القاهرة الشعبية وفي أعماق القرية المصرية‏,‏ وظهرت فيها أسماء جديدة ومواهب كبيرة‏,‏ كما ازدهرت فنون المسرح‏,‏ والسينما‏,‏ والأغنية والفنون التشكيلية بالجهود الفردية‏,‏ وجهود الدولة والمؤسسات الاقتصادية الأهلية‏.‏ وفي تضافر هذه الجهود وتعددها وتنوعها ظهرت العلاقة الوثيقة بين الثقافة والواقع الحي الذي كان يشهد هو الاخر تطورات جذرية‏.‏

لقد اشتدت الحركة الوطنية وازدادت خبرة وتعددت أجنحتها وتنوعت برامجها وشعاراتها‏,‏ وأثبتت البرجوازية المصرية وجودها‏,‏ فهي تقود الرأي العام‏,‏ وتشارك في السلطة‏,‏ وتحل محل المتمصرين المرتبطين بالقصر الملكي‏.‏ والطبقة العاملة تتسع وتتبلور ملامحها‏,‏ والأحزاب والمنظمات السياسية والنقابية تنشط وتتصل بالعالم الخارجي‏,‏ وتقتبس من تجارب الشعوب الأخري ونضالها‏,‏ وتشيع في البلاد روحا جديدة تمثلت قبل كل شيء في التيارات العقلانية واليسارية التي اجتذبت اليها شباب الاربعينيات ومثقفيها ووجدت حتي في الأجيال السابقة من يتعاطف معها ويلون كتابته ببعض ألوانها‏.‏

وفي هذا المناخ الخصب المحتدم الحافل بالأصوات والألوان ظهر محمود أمين العالم ليواجه الأسئلة التي كان لابد أن يواجهها شباب تلك المرحلة خاصة هؤلاء الذين كانوا يدرسون الفلسفة‏:‏ ما هي العلاقة التي تربط الثقافة بالواقع؟ وما الدور الذي تلعبه الحقائق الموضوعية في العمل الأدبي؟ وما الدور الذي يلعبه الخيال؟ وهل يكون الجمال وحده غاية الشاعر أو الفنان‏,‏ أم ان الجمال الحق حق‏,‏ والحق دائما جميل؟ وفي هذا الصراع المحتدم بين المستعمرين وأهل البلاد‏,‏ وبين الحكام الطغاة والمحكومين المضطهدين‏,‏ وبين ملاك الأرض والفلاحين الكادحين أين يقف الكاتب والشاعر والفنان والفيلسوف؟ ماذا يقول؟ وبأي لغة يقول؟ وهل يكفي القول أم لابد أن يصدقه العمل؟

ولقد وجد محمود أمين العالم نفسه مطالبا بتقديم الجواب الذي ضحي من أجله بالشعر فصار ناقدا‏,‏ ثم ضحي بكل شيء لأنه أراد أن يفعل ولم يكتف بأن يقول‏!‏