أبدايك‏..‏ وكلمته الأخيرة بقلم‏:‏ محمد سلماوي

من طرف لميس الأربعاء فبراير 04, 2009 10:59 am

أبدايك‏..‏ وكلمته الأخيرة
بقلم‏:‏ محمد سلماوي

جون
أبدايك هو بلا منازع أهم الكتاب الأمريكيين في الجيل الذي بزغ نجمه في
النصف الثاني من القرن الـ‏20,‏ وقد توفي منذ أيام عن عمر يناهز الي‏76‏
عاما لكني لم أجد في صحافتنا التي زادت محليتها بشكل ممل في السنوات
الأخيرة‏,‏ أي اهتمام بواحد من أشهر الروائيين في العالم والذي امتدت
كتاباته من الرواية الي القصة القصيرة والمقال‏,‏ فإلي متي يظل أفقنا يضيق
بحيث لا نري غير أخبار الفساد المحلي وجرائم قتل المطربات بينما العالم من
حولنا يموج بالتطورات الثقافية والمعرفية من يوم الي يوم؟

لقد كان
جون أبدايك أول روائي أمريكي ينجح في الدخول الي نفس شاب أمريكي متمرد
اختار أن يعتنق الإسلام ويقوم بتفجير أحد أهم الانفاق الأمريكية وهو نفق
لنكولن الشهير‏,‏ وقد كانت تلك الرواية الصادرة عام‏2006‏ تحت عنوان
الإرهابي آخر ماكتب أبدايك من روايات قبل رحيله يوم‏27‏ يناير الماضي‏,‏
وفيها استخدم مقاطع كثيرة من القرآن الكريم بدت لي وأنا أقرأها كأن من
كتبها يجيد العربية اجادة تامة ويعرف آي الذكر الحكيم خير معرفة حتي أن
بطل الرواية أحمد ذا الـ‏18‏ عاما ظهر كشخصية حقيقية يعرفها القارئ جيدا
ويتعاطف مع مشاعرها ورفضها لأسلوب الحياة الأمريكية‏,‏ ومازلت أذكر حين
قرأتها وقت صدورها إحساسي بأن من كتبها هو مؤلف عربي مسلم يعيش في
الولايات المتحدة وليس كاتبا أمريكيا شهيرا تخصص في الكتابة عن الحياة
الأمريكية وعما يسمونه‏THEMIDDLEAMERICAN‏ أي الأمريكي المتوسط بكل تفاصيل
حياته‏.‏

وفي أحد أحاديثه قال أبدايك إنه يعشق أواسط الأشياء لأن
الوسط هو الذي تتصارع فيه الأطراف ومن هنا تكون دراميته‏,‏ وقد كانت أهم
شخصيات هذا النموذج هو هارولد أنجستروم الذي عرف باسم‏RABBIT‏ أي أرنب وهو
بطل الرباعية الروائية التي تحمل اسمه والتي تعتبر من أهم الأعمال
الروائية الأمريكية قاطبة‏,‏ ففيها يصور أبدايك الأمريكي العادي الذي لا
يتميز عن أقرانه في شيء والذي هو نتاج طبيعي للحياة الأمريكية الحديثة
التي تتجاذبها قوتا الدين من الناحية والجنس من الناحية الأخري مما دعا
بعض النقاد لأن يأخذوا علي أبدايك اهتمامه الزائد بهذين الموضوعين في جميع
رواياته‏.‏

وقد أصبحت شخصية رابيت واحدة من أهم الشخصيات في الأدب
الأمريكي فهي تقف جنبا الي جنب مع شخصيات روائية أخري مثل جاي جاتسبي
وهكلبري فين وهولدن كولفيلد‏,‏ فلكل الآداب الشخصيات التي تكتسب شهرة خارج
العمل الأدبي الذي وردت فيه فتصبح نموذجا معروفا في الحياة بشكل عام‏,‏
مثل شخصية سي السيد في ثلاثية نجيب محفوظ علي سبيل المثال‏.‏

ويعتبر
جون أبدايك ذو الأصول الهولندية هو غير اليهودي الوحيد في جيله من
الروائيين الأمريكيين من أمثال نورمان ميللر وصول بيللو وغيرهما‏,‏ فهو
بروتستانتي أبيض اهتم بالدين باعتباره مكونا أساسيا في الحياة
الأمريكية‏,‏ وإن كانت قد تفاوتت قبضته علي أعماله من رواية الي أخري‏,‏
كما تفاوتت قبضة الجنس‏,‏ ففي رباعية رابيت علي سبيل المثال كما في روايات
شهر من الآحاد وفي اتجاه نهاية الزمن نجد اهتماما بالدين ضمن حقائق الحياة
العادية لأبطاله الذين يمثلون نماذج مختلفة من المواطنين المتوسطين في
الولايات المتحدة‏,‏ بينما في رواية‏COUPLES‏ أي الازواج نجد شرحا تفصيليا
للعلاقات بين الأزواج الذين يصيب الضجر حياتهم الزوجية فيبحثون عن المتعة
الجنسية خارج الزواج‏,‏ وإن كان علينا أن نؤكد هنا أن تصوير أبدايك لتلك
المشاهد يأتي في اطار من الشاعرية والبلاغة الروائية المتفوقة‏.‏

أما
في رواية الإرهابي فقد خرج أبدايك من جلد المواطن الأمريكي المتوسط ليدخل
جلد ذلك الشاب المسلم‏,‏ ومع ذلك فإن أبدايك لم يترك موقعه القديم‏,‏
فالشاب أحمد هو مواطن أمريكي متوسط لكنه يختار طريقا آخر‏,‏ فهو نتاج زواج
والدته الأمريكية من طالب بعثة مصري كان يدرس في الولايات المتحدة ثم عاد
الي مصر ولم يعد أحد يعرف له طريقا‏,‏ بينما اتخذت والدته لنفسها عشيقا
تعيش معه‏,‏ ونجد أحمد يثور علي الحياة الأمريكية المتوسطة التي أمضي
أبدايك عمره في تصويرها ويختار الدين الاسلامي طريقا للخلاص‏,‏ وبالرواية
مقاطع كثيرة من القرآن الكريم يتوقف عندها أحمد بالدراسة والتمعن ويساءل
نفسه حول جدوي الحياة التي يحياها وعن العلاقة العاطفية التي تجمعه بفتاة
سمراء أمريكية تدفعه غريزته في سن المراهقة إلي ممارسة الجنس معها‏.‏

ومن
خلال تردد أحمد علي أحد المساجد الصغيرة الأقرب الي الزاوية يتعرف علي
جماعة تخطط لأعمال ارهابية ويختارونه ليقوم بتفجير نفق لنكولن في ساعة
الذروة حين يكون النفق مزدحما بالسيارات المارة فيه عبورا من ضفة النهر
الي الضفة الأخري‏,‏ ويذهب أحمد الي شركة النقل التي يملكها بعض
اللبنانيين حيث يعمل سائقا علي إحدي سيارات الشحن التابعة لهم استعدادا
لتنفيذ مهمته‏.‏

ويترك أبدايك نهاية الرواية مفتوحة حيث نري أحمد
وهو يمر بالفعل من النفق ويري في نهايته نور النهار في الجانب الآخر لكننا
لا نعرف إن كان قد تمت عملية التفجير أم لا‏,‏ وتلك براعة من الكاتب حيث
أراد ألا يصم بطله الذي تعاطفنا معه طوال الرواية بالإرهاب الصريح حتي لا
يكون مدانا‏,‏ ومن ناحية أخري فإن المهم في الرواية كان رحلة ذلك الشاب
المتمرد علي الحياة الأمريكية ووصوله الي الاسلام باعتباره يمثل الخلاص
بالنسبة له‏.‏

فها هو كاتب أمريكا الكبير لا يترك موضوعاته الأثيرة
التي طبعت رواياته جميعا لكنه يصورها هذه المرة من الجانب الآخر‏,‏
فالكتاب هو تصوير للحياة الأمريكية العصرية وهو مليء كالعادة بالاهتمام
بالدين وبالجنس لكنه يقدم رؤية مغايرة تماما لما قدمته روايات أبدايك
السابقة‏.‏

إن الإرهابي هي كلمة ابدايك الأخيرة وقد هوجم عليها
كثيرا في بلاده لكني لم أجد الاهتمام الذي يستحقه في صحافتنا بمناسبة
رحيله‏,‏ كما لم أجد ترجمة عربية لروايته المتميزة عند صدورها‏.‏ وهكذا
مضت كلمته الأخيرة دون أن نسمعها‏.‏