ثقافة الحوار بين الحضور والغياب‏!‏ بقلم : السيد يسين

من طرف نونو الخميس فبراير 05, 2009 9:59 am

ثقافة الحوار بين الحضور والغياب‏!‏
بقلم : السيد يسين

نظم
معرض القاهرة الدولي للكتاب ندوة مهمة عن ثقافة الحوار شاركت فيها مع
أستاذ علم الاجتماع د‏.‏عبدالباسط عبدالمعطي‏,‏ وأستاذ العلوم السياسية
د‏.‏عبدالمنعم المشاط‏,‏ وأعترف سلفا بأنني لم أعد نفسي مسبقا للندوة كما
أفعل عادة في الندوات التي أشارك فيها‏.‏ فضلت هذه المرة أن أكون معقبا
علي الأفكار التي ستطرح‏,‏ والمناقشات التي ستعقب ذلك من جمهور الندوة‏.‏

وقد
ظهر من عروض الندوة اتجاهان في مناقشة مشكلة ثقافة الحوار في المجتمع
العربي‏,‏ الاتجاه الأول يركز من وجهة نظر علم الاجتماع علي التحليل الكلي
للمجتمع‏,‏ لكي يبرز نوعية الأزمات التي تسوده سياسية واقتصادية
وثقافية‏,‏ مع التركيز علي نمط إدارة المجتمع سياسيا‏.‏

والاتجاه
الثاني يركز علي موضوع الشخصية القومية وعلاقة سماتها بالقدرة أو العجز عن
الحوار‏,‏ وهذا الموضوع من مباحث علم النفس الاجتماعي التي دار فيها الجدل
حول مدي علمية بحوث الشخصية القومية‏.‏

ومع أن التركيز كان علي
ثقافة الحوار في المجتمع المصري‏,‏ إلا أن العروض التي قدمت كانت تتجاوز
ذلك أحيانا إلي المجتمع العربي ككل‏.‏ وليس ذلك غريبا علي أية حال‏,‏
فالمجتمع المصري يعد جزءا فاعلا في المجتمع العربي‏,‏ قد تكون له سماته
القطرية الفريدة‏,‏ إلا أنه مع ذلك يتشابه في عديد من السمات مع باقي
المجتمعات العربية‏.‏

وقد حاولت في تعقيبي علي عروض الندوة الزاخرة
بالأفكار الموحية‏,‏ أن أشق لنفسي طريقا مستقلا‏,‏ لأنني رأيت أن أبدأ
بإقامة الصلة العضوية بين ثقافة الحوار‏,‏ غيابها أو حضورها‏,‏ ونمط
النظام السياسي السائد‏.‏

وفي مجال تنميط النظم السياسية
المعاصرة‏,‏ أميل عادة إلي تبني التصنيف الذي وضعه عالم الاجتماع السياسي
الأمريكي المعروف لويس كوزر ونشره في كتابه علم الاجتماع السياسي‏.‏

يصنف كوزر النظم السياسية عموما إلي ثلاثة‏:‏ شمولية وسلطوية وليبرالية‏.‏

والنظام
الشمولي ـ والذي كان نموذجه البارز النظام السوفيتي قبل الانهيار ـ يهيمن
علي المجال العام في المجتمع هيمنة مطلقة‏,‏ ولا يترك أي إمكانية لبروز
وتبلور مراكز سياسية تبادر بطرح أفكار تتعلق بالتطور الاجتماعي‏,‏ لأنه لا
صوت يعلو علي صوت الحزب الشيوعي‏,‏ الذي هو الحزب الوحيد الحاكم‏,‏ والذي
لا يسمح إطلاقا بتعدد الأحزاب‏.‏

الدولة تقوم بكل شئ في هذا
النظام‏,‏ فهي التي تتولي الإنتاج وتراقب الاستهلاك‏,‏ وهي التي تنتج
السياسة‏,‏ والثقافة أيضا‏,‏ بعبارة أخري ليس هناك مجال لأي مبادرات فردية
أو جماعية خلاقة في أي ميدان‏,‏ حتي الأدب والفن كان يخضع للرقابة‏,‏ بما
في ذلك الفن التشكيلي‏!‏ في هذا المجتمع الشمولي تختفي ثقافة الحوار
تماما‏,‏ لأنه لا يسمح لأحد بأن يعبر عن معارضته للسياسات القائمة‏

وحتي
لو كان الشخص سياسيا أو مثقفا شيوعيا وعضوا في الحزب الشيوعي فإنه معرض
للمحاكمة لو عبر عن رأيه بصورة نقدية‏,‏ وقد ابتدعت السلطات الشيوعية
ألفاظا خاصة تصف هؤلاء بأنهم منقحون أو مراجعون‏Revionisities‏ وقد يجبرهم
الحزب علي ممارسة النقد الذاتي علنا‏,‏ لأنهم خرجوا عن توجهات الحزب
المستقرة‏.‏

وقد حاول عدد من المثقفين السوفيت في نهاية عصر
الاتحاد السوفيتي بعد أن ضاقوا بتقييد حرية التفكير وحرية التعبير‏,‏ أن
يمارسوا الحوار المجتمعي من خلال إصدار وتوزيع منشورات سرية تعبر عن
آرائهم في عديد من الموضوعات الفلسفية والسياسية والثقافية‏,‏ وأصبح لهذه
المنشورات اسم باللغة الروسية هو‏Zamisdat.‏

وجري تهريب عديد من
هذه المنشورات إلي الخارج‏,‏ وتولت بعض دور النشر الإنجليزية نشر مختارات
منها وقد أتيح لي شخصيا أن اقتني ـ في إحدي زياراتي إلي لندن ـ كتابا من
جزءين يحتوي علي دراسات بالغة الأهمية لم يسمح بتداولها في المجتمع
السوفيتي‏,‏ من بينها دراسة مهمة للمؤرخ السوفيتي ميدفيديف الذي أصبح بعد
انهيار الاتحاد السوفيتي عضوا بارزا في مجلس النواب الروسي‏,‏ والذي أصدر
كتابا مهما عن أسرار انهيار الاتحاد السوفيتي‏.‏

ومعني ذلك أن
الحوار كان غائبا تماما طوال الفترة الستالينية ومابعدها‏,‏ ولم تعد له
الحياة إلا بعد انهيار النظام الشمولي السوفيتي‏,‏ وظهور روسيا كبلد يتحول
إلي الرأسمالية والليبرالية‏,‏ ويعرف التعددية الحزبية‏,‏ وهكذا بدأت
عملية الحوار تدور من جديد لتضفي الحيوية علي الحياة السياسية والثقافية‏.‏

وبالإضافة
إلي النظام الشمولي هناك ما يطلق عليه النظام السلطوي‏authoritaritarian‏
والذي يعني الهيمنة النسبية للنظام السياسي علي مجمل الفضاء الاجتماعي
لمجتمع ما في لحظة تاريخية محددة‏.‏

وربما كان المجتمع المصري في
الحقبة الناصرية نموذجا لهذا المجتمع السلطوي‏,‏ لم يكن مسموحا بالتعددية
الحزبية‏,‏ وكان هناك حزب واحد هو الاتحاد الاشتراكي‏,‏ وبالرغم من أن
النظام السلطوي عادة لا يهيمن علي كل مراكز التفكير المستقل في البلاد‏,‏
ويترك بالتالي هامشا وإن كان ضيقا للتعبير الذاتي وخصوصا في الأدب
والفن‏,‏ إلا أن الحوار السياسي بالمعني الحقيقي للكلمة كان محاصرا حصارا
شديدا‏

‏ويكشف عن ذلك ردود الفعل العنيفة التي اتبعت ضد من نقدوا
الاشتراكية باعتبارها الخيار السياسي الأساسي للنظام منذ بداية
الستينيات‏,‏ سواء كانوا من أهل اليمين إسلاميين أو ليبراليين‏,‏ أو من
أهل اليسار اشتراكيين أو شيوعيين‏.‏

ونصل أخيرا إلي النظام
الليبرالي‏,‏ وهذا النظام عكس كلا من النظامين الشمولي والسلطوي‏,‏ هو
الذي يفسح لثقافة الحوار الانتشار الواسع المدي‏,‏ بحكم أن الدولة في هذا
النموذج هي دولة الحد الأدني‏,‏ بمعني أنها لا تتدخل في الاقتصاد وتترك
السوق تدير الحياة الاقتصادية من خلال آلية العرض والطلب‏,‏ كما أنها لا
تتدخل بشكل فوقي في السياسة‏,‏ لأنها تؤمن بتعدد الأحزاب السياسية‏,‏
ومعني ذلك أنها تتيح لكل الأزهار أن تتفتح‏,‏ ولكل رؤي العالم أن تعبر عن
نفسها‏.‏

ونحن هنا نتحدث عن النظام الليبرالي في النظرية وليس في
التطبيق‏,‏ لأن البلاد الليبرالية في بعض الفترات من تاريخها‏,‏ قد تمارس
حصارا شديدا علي حرية الحوار‏,‏ ويكفي في هذا المجال أن نشير لتجربتين
لهما أهمية خاصة في التاريخ الأمريكي‏.‏

التجربة الأولي هي
المكارثية نسبة إلي عضو الكونجرس الأمريكي الشهير مكارثي الذي رأس لجنة
استماع لمطاردة الشيوعيين واليساريين عموما‏,‏ وخصوصا في أوساط المثقفين
والفنانين الأمريكيين‏,‏ كانت هذه فترة سوداء حقا في التاريخ الأمريكي‏,‏
لأن الحوار حوصر وألغي‏,‏ لحساب ملاحقة المثقفين وفصلهم من وظائفهم‏,‏ أو
منعهم من متابعة نشاطهم الثقافي والفني‏.‏

والتجربة الثانية هي
المجتمع الأمريكي بعد‏11‏ سبتمبر لأن الرئيس جورج بوش أصدر تشريعا باسم
قانون الوطنية ليحاسب علي أساس نصوصه كل من يعترض علي الحرب التي شنها علي
كل من أفغانستان والعراق‏,‏ بالإضافة إلي إعطاء السلطات الأمنيةإمكانيات
واسعة للتنصت علي مكالمات المواطنين الأمريكيين‏,‏ أو القبض علي من يشتبه
أن له علاقة بالإرهاب علي غير ما يقضي به قانون الاجراءات الجنائية‏.‏

ويمكن
القول ان هذه الحقبة السوداء من تاريخ أمريكا علي وشك أن تنقضي بعد نهاية
ولاية الرئيس جورج بوش‏,‏ وتولي الرئيس أوباما رئاسة الولايات المتحدة
الأمريكية‏,‏ الذي بدأت بوادر تنفيذه الصادقة لوعوده الانتخابية‏,‏ في
الإسراع في الانسحاب من العراق‏,‏ وإغلاق معتقل جوانتامامو‏,‏ وفتح حوار
مع إيران‏,‏ ومع المنظمات الفلسطينية‏,‏ ومعني ذلك أن الحوار السياسي الذي
تم اعتقاله في حقبة جورج بوش‏,‏ وحل محله استعمال القوة الغاشمة‏,‏ بدأ
جولة جديدة من الانفتاح الفكري‏.‏

وإذا نظرنا إلي المجتمع العربي ـ
بعد هذه المقارنات الدولية التي قد تكون قد طالت كثيرا ـ فأول حقيقة ينبغي
أن نركز عليها أن النظم السياسية العربية ـ في مجملها ـ تتسم بالشمولية
والسلطوية‏,‏ وأن النظم الليبرالية فيها تكاد تكون نادرة‏,‏ بحيث يمكن
القول ان بعض النظم السياسية العربية ـ بحكم حرية التفكير فيها وحرية
التعبير مثل النظام السياسي المصري والنظام السياسي اللبناني ـ يمكن أن
تصفها بأنها شبه ليبرالية‏

وذلك لأن هناك قيودا سياسية مازالت
مفروضة علي عديد من الموضوعات الحيوية بالرغم من الانفتاح الفكري
والإعلامي غير المسبوق في مصر الآن‏.‏

وإذا كانت ثقافة الحوار لها
ـ كما أثبتنا من الدراسة المقارنة ـ صلة عضوية بنوعية النظام السياسي‏,‏
فإنه يصح التساؤل هل لها صلة بسمات الشخصية القومية العربية؟

الشخصية
القومية ابتداء ـ في التعريف ـ هي السمات النفسية والاجتماعية لشعب ما أو
لمجموعة من الشعوب في مرحلة تاريخية محددة وتتسم بالثبات النسبي‏.‏

وهكذا
يمكن الحديث عن شخصية قومية عربية لها سماتها‏,‏ بالرغم من أن كل شخصية
إقليمية كالشخصية المصرية أو التونسية أو العراقية‏,‏ لها سماتها الفارقة
التي هي نتاج التاريخ الاجتماعي الفريد لكل قطر‏.‏

وفي ضوء هذه
التفرقة يمكن القول إن ثمة أوصافا ذائعة للشخصية القومية العربيةوردت في
كتابات المستشرقين أو في كتابات النقاد الاجتماعيين العرب‏.‏

مما
ورد في بعض الكتابات النقدية مثلا أن العرب اتفقوا علي ألا يتفقوا‏!‏
بمعني أن الاجماع العربي علي قضية ما مسألة مستحيلة‏,‏ نتيجة لعجز العرب
عموما عن الحوار المنتج‏,‏ وعن فهم ثقافة الحوار الأصيلة‏,‏ التي تتطلب
الوصول إلي الحلول الوسطي‏,‏ وعدم التشبث بالمواقف المبدئية المتطرفة‏.‏

وقد
يكون في هذه العبارة مبالغة شديدة لأن لحظات الاتفاق القومي العربي ـ إن
صح التعبير ـ متعددة‏,‏ هناك لحظة عام‏1948‏ حين اجتمعت الدول العربية
المستقلة آنذاك علي خوض معركة عسكرية ضد العصابات الصهيونية نصرة للشعب
الفلسطيني‏

وهناك لحظة العدوان الثلاثي علي مصر عام‏1956‏ الذي
شاركت فيه إسرائيل وانجلترا وفرنسا‏,‏ حيث وقف العرب جميعا مع مصر ضد
العدوان‏,‏ وهناك لحظة حرب أكتوبر المجيدة عام‏1973‏ التي وقفت فيها الدول
العربية جميعا مع مصر‏,‏ وهناك عبارة أخري لأحد النقاد الاجتماعيين العرب
هي أن العرب ظاهرة صوتية‏!‏ وهي تنسب للكاتب السعودي المنشق القضيمي‏,‏
وأيضا هناك مبالغة شديدة في هذه العبارة التي قيلت علي سبيل التفكه
والتهكم‏.‏

ومن يشهد الآن النهضة العربية في عديد من مجالات
تكنولوجيا الاتصالات والمعرفة في بلدان المشرق والمغرب والخليج علي وجه
الخصوص‏,‏ ليدرك أن العرب ليسوا مجرد ظاهرة صوتية‏,‏ بل إنهم قادرون علي
الفعل إذا ما خططوا له تخطيطا سليما‏.‏

ويبقي السؤال المحوري‏:‏ ما هي المعوقات الحقيقية لنشر ثقافة الحوار في المجتمع العربي إذا ما تركنا جانبا القيود السياسية؟

تحتاج الإجابة إلي تحليل ثقافي متعمق للمجتمع العربي المعاصر‏.‏