كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا بقلم‏:‏ د‏.‏ عبد الهادي مصباح

من طرف **سهر الليالى** الأحد فبراير 08, 2009 2:11 pm

كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا
بقلم‏:‏ د‏.‏ عبد الهادي مصباح

النفس
ـ كما سبق أن شرحنا وحسب ما هو أقرب لقناعتنا ـ هي الروح في حال تعلقها
بالجسد‏,‏ ويرتبط بها آنذاك العقل والقلب لكي تصبح ذاتا إنسانية لها خصائص
تميزها عن باقي المخلوقات التي تملك روحا أيضا‏,‏ وبناء علي ذلك فالذات
الإنسانية مكونة من ثلاث ملكات‏,‏ كل منها يختلف عن الآخر‏,‏ إلا إنها لا
تفترق عن بعضها البعض فهي كل لا يتجزأ‏,‏ وهي‏:‏ النفس‏(‏ الروح حال
اقترانها بالجسد‏),‏ والعقل‏,‏ والقلب‏.‏ فالنفس فيها النوازع النفسية
سواء كانت خيرا‏,‏ أم شرا‏,‏ وقد تفعل الخير أو تفعل الشر‏,‏ فهي تملك
حرية الاختيار بين البدائل من خلال العقل‏,‏ وهي التي عليها التكاليف
الشرعية‏,‏ وهي بهذا التكوين والاتصال تكتسب صفات مدح أو ذم‏,‏ فهي إما أن
تكون نفسا أمارة بالسوء‏,‏ أو نفسا لوامة‏,‏ أو نفسا مطمئنة ونفس وما
سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها لشمس‏7‏
ـ‏10,‏ وكل ما تفعله هذه النفس يقيد عليها ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب
عتيد ق‏18,‏ وأيضا كل نفس بما كسبت رهينة المدثر‏38,‏ ثم يأتي الإنسان يوم
القيامة ليتسلم كتابا مدونا فيه كل ما عمل ويقال له اقرأ كتابك كفي بنفسك
اليوم عليك حسيبا الإسراء‏14.‏

والعقل هو مناط التكليف الذي يوجه
النفس‏,‏ ويكبح جماحها‏,‏ ويجعلها تختار بين البدائل‏,‏ وتتعرف علي الخير
والشر والحلال والحرام‏,‏ ولولاه لما كان علي الإنسان تكليف أو حساب‏,‏
وإذا كان المخ هو الأداة التي نمارس من خلالها التعقل الذي ميز به الله
الإنسان علي سائر الكائنات‏,‏ فليس معني ذلك أن المخ هو العقل‏,‏ فالعقل
من خصائص الروح‏,‏ والمخ عضو في الجسد‏,‏ وهو الوسيلة والأداة للتعبير عن
العقل‏,‏ تماما مثل الساعة التي تكون وسيلة للتعبير عن الزمن‏,‏ إلا أن
هذا لا يعني أن الساعة هي نفسها الزمن‏,‏ فكما أن العين هي أداة
الإبصار‏,‏ والأذن هي أداة السمع‏,‏ فالمخ أيضا هو أداة العقل‏.‏

أما
القلب فيراد به في القرآن ـ الي جانب معناه المادي ـ تلك اللطيفة الربانية
التي تجعل منه مركزا للروح‏,‏ وليس الروح ذاتها‏,‏ فهو دينامو النفس
البشرية التي تستقبل الطاقات والسلوكيات الإيمانية والتعبدية التي وضعها
صانع الصنعة والخالق عز وجل في كتالوج الصيانة الذي وضعه لخلقه‏,‏
والمتمثل في افعل ولا تفعل‏,‏ وتحولها الي طاقة ضوئية ونور لكي يضيء لها
الطريق ويهديها الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن
القلوب الرعد‏28,‏ وقوله صلي الله عليه وسلم‏:‏ القلوب تصدأ مثل الحديد
فعليكم بجلائها بالقرآن‏,‏ وفي حالة عدم استقبال هذه الطاقة الإيمانية فإن
الدينامو يتوقف عن الشحن‏,‏ وتصبح النفس البشرية مظلمة ضالة‏,‏ وعمياء عن
الطريق الصحيح أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان
يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور
الحج‏46,‏ ونجده عز وجل في آية أخري يقول لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم
اعين لا يبصرون بها الأعراف‏179,‏ كما ذكر أيضا في القرآن لفظ الفؤاد
إشارة الي القلب مثل قوله تعالي إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسئولا‏.‏

ولأنه سبحانه وتعالي هو الخالق‏,‏ فإنه الأعلم بمن
خلق‏,‏ ويعلم أن الإنسان مجادل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا الكهف‏4,‏ لذا
فقد أودع المولي عز وجل ذاكرة علي هارد ديسك في كل من النفس والبدن حتي
إذا جادلت النفس‏(‏ بعد عودة الروح الي الجسد‏)‏ يوم الحساب ـ مثلما
أخبرنا المولي عز وجل يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفي كل نفس ما
عملت وهم لا يظلمون النحل‏111‏ ـ فإن من يتصدي لها ليست الملائكة التي
تكتب وتقيد‏,‏ ولكن من يرد هو تلك الذاكرة التي أودعها عز وجل في كل من
النفس والجسد والتي يمكن أن نشبهها بالصندوق الأسود الموجود في الطائرة‏,‏
والذي يسجل كل شيء حدث‏,‏ ونعرف منه ـ حتي بعد تحطم الطائرة ـ كل ما
حدث‏,‏ وهذا الصندوق الأسود موجود في كل من النفس والجسد من خلال سوفت وير
أو برنامج بداخل كل منا يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون النور‏24,‏ ولكن كيف يحدث ذلك؟‏..‏

لعل ما سوف نشرحه أو
نحاول استنتاجه ليس إلا محاولة لتقريب ما يحدث من خلال العلم لأذهان
الناس‏,‏ ولنبدأ بما نتخيل أنه سوفت وير أو برنامج الذاكرة بالنسبة للروح
التي تسمي نفسا حال وجودها داخل جسم الإنسان‏,‏ والتي يرتبط بها العقل
والقلب‏,‏ فالروح عبارة عن طاقة أودعها الخالق عز وجل في الجسم المادي
فنفخنا فيه من روحنا الأنبياء‏91,‏ وقد كتب لها المولي الخلود بعد أن
تفارق الجسد‏,‏ ووضع عز وجل آليات في الحواس المختلفة للجسد‏(‏ مثل ـ
السمع ـ البصر ـ اللمس ـ الشم ـ التذوق‏)‏ حيث أن بمقدور هذه الآليات أن
تلتقط المؤثر الخارجي‏,‏ وتحول هذه الإشارات الخارجية الي مجال
كهرومغناطيسي في الدماغ البشرية أو المخ‏,‏ مما ينعكس علي المجال
الكهرومغناطيسي للروح‏,‏ حيث تتغير هيكلية المجال الكهرومغناطيسي للروح‏,‏
ويتم تسجيل هذا التغير لخصائص المؤثر الخارجي‏,‏ ومن خلال هذه المجالات
الكهرومغناطيسية في الدماغ يحدث التفاعل مع طاقة الروح وتؤثر فيها‏,‏
وبذلك تحسها الروح والنفس وتتأثر بها‏,‏ وبالتالي فإن النفس تري وتسمع
وتعقل وتفكر‏,‏ وهذا يمثل ذاكرة الإنسان التي تختزن وتسجل عليه‏,‏ ثم تقرأ
من قبل الروح‏,‏ فيتذكر الإنسان ما قد فعله في حياته‏(‏ اقرأ كتابك كفي
بنفسك اليوم عليك حسيبا‏)‏ الإسراء‏14,‏ ولعل هذا الأمر يشبه تسجيل الصوت
أو الصورة علي شريط أو قرص مدمج ممغنط‏(‏ سي دي‏)‏ في زماننا هذا‏,‏ حيث
إن الصوت والصورة يمكن أن يحفظا‏,‏ ويتم تسجيلهما عن طريق عمل تغييرات في
المجال المغناطيسي للشريط أو الـ‏(‏سي دي‏)‏ حيث يمكن أن تقرأ‏,‏ وينتج عن
قراءتها الصوت أو الصورة‏,‏ أما أعضاء الجسم البشري و البدن التي عصت ربها
فإن المولي عز وجل سوف ينطقها لتشهد علي صاحبها أيضا‏.‏

فلقد أثبتت
الأبحاث العلمية الحديثة أن الذاكرة ليست حكرا علي المخ وخلاياه فقط‏,‏
وأن الخلايا في كل عضو من أعضاء الجسم لها ذاكرة خاصة بها بخلاف ذاكرة
المخ‏,‏ وأدخل لأول مرة في تاريخ الطب تعبير مخ القلب‏HeartBrain,‏ وأن
للقلب جهازا عصبيا خاصا به في غاية التعقيد يتكون من خلايا وموصلات عصبية
وبروتينات‏,‏ تعمل بشكل مستقل عن الأعصاب المخية‏,‏ ويستطيع هذا المخ
القلبي أن يتعلم ويتذكر ويشعر ويحس ويخاف ويؤمن‏,‏ وكذلك أعضاء الجسم لها
ذاكرة أيضا‏,‏ وسوف تشهد بناء علي هذه الذاكرة علي صاحبها‏,‏ وتسرد له ما
فعله يوم العرض والحساب‏,‏ فيقول تعالي‏:‏ اليوم نختم علي أفواههم وتكلمنا
أيديهم وتشهد أرجهلم بما كانوا يكسبون يس‏65,‏ فكل هذه الأعضاء أنت في
الظاهر مسيطر عليها تفعل لك ما تشاء بأمر الله‏,‏ إلا أنها في الحقيقة لها
حياتها الخاصة وذاكرتها وذكرياتها‏,‏ فهي مسبحة ومؤمنة ولها لغة تتكلم
بها‏,‏ فهي مسخرة لك في الحياة الدنيا فقط‏,‏ فإذا انتهت حياتك فلا سلطان
لك عليها‏,‏ بل تشهد عليك وتلعنك إن سخرتها فيما يغضب الله‏,‏ واقرأ قول
الحق سبحانه وتعالي‏:‏ حتي إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم
وجلودهم بما كانوا يعملون‏.‏ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا
الله الذي أنطق كل شيء‏20‏ ـ‏21‏ فصلت‏,‏ إذن فشهود الإثبات ضدك يومئذ
هما‏:‏ النفس أيا كان حلها‏(‏ أمارة بالسوء ـ لوامة ـ مطمئنة‏),‏ والبدن
الذي كانت تسكنه تلك النفس‏.‏

‏hadymesbah@yahoo.com‏