ممارسات غير مجدية‏!‏ بقلم‏:‏ د‏.‏فوزي فهمي

من طرف koko الإثنين فبراير 09, 2009 12:56 pm

ممارسات غير مجدية‏!‏
بقلم‏:‏ د‏.‏فوزي فهمي

عاد
الرجل إلي داره‏,‏ دفع بوابته‏,‏ ساحبا حماره إلي حوش الدار‏,‏ ثم عقله في
مربطه‏,‏ تفحص ببصره أفق قريته في ظلامها‏.‏ ارتفعت ضربات قلبه‏,‏ عندما
وقع بصره علي دار جاره المجاورة لداره‏,‏ فتحسس لحيته مكابدا‏,‏ وسب جاره
غاضبا‏,‏ ودخل بيته‏,‏ وكأنه يواجه يأسه‏.‏ قابلته زوجته فتبدت كمن تجاهد
في كتم السؤال ليكون قيد الإرجاء‏,‏ لكن ما إن جلس الزوج حتي أطلقت
سؤالها‏.‏ أدرك الرجل لهفتها‏,‏ ولكي يمنحها يقينا بالاطمئنان‏,‏ أخذ يسرد
تفاصيل مرافقته لابنهما حتي محطة القطار‏,‏ حيث غادر إلي وجهته‏.‏ قد تكون
الأم قد اطمئنت علي سلامة رحيل ابنها‏,‏ لكن يبقي ما بعد الرحيل متجليا في
قطيعة المكان الجغرافي بينهما‏,‏ وغياب حضوره الإنساني‏,‏ وذلك ما يشكل
قلقا لدي الأم منطلقة الخوف المحدد بشخص ابنها‏,‏ ويتطلب التحرر من الخوف
مداومة الاطمئنان عليه‏.‏ صحيح أن هم البعاد للمغادر يثير لديه أيضا نوعا
من القلق‏,‏ لكنه يختلف‏,‏ فهو قلق دون حدود‏,‏ يقذف به إلي حالة من
الوحشة والاغتراب تجاه الوجود‏,‏ تعني أنه ليس في بيته‏,‏ وأنه مقصي عن
انتماءاته‏,‏ منفصل عن كيانه‏,‏ وينزلق إلي إحساس فقدان الوطن‏,‏

إذ
يصبح في واقعه الجديد عاريا من وطنه‏,‏ وهو إحساس يصعب تخطيه أو محوه‏,‏
إذ معني الوطن من حيث هو حدود‏,‏ وسيادة ومركزية‏,‏ وولاء لخصوصية
ثقافية‏,‏ تجسده منظومة من الاتجاهات والقيم‏,‏ تولد لدي أفراده اقتدارا
داخليا مكتسبا‏,‏ يؤدي إلي ممارسات تحفظ بقاء الوطن‏,‏ وتصون مصالحه‏,‏
أنتجتها الممكنات الاجتماعية لأطياف جماعاته بتضافرها علي مدار تاريخها
ووضعها الجغرافي‏,‏ وتعاود إنتاجها في ظل مستجدات الأزمنة‏,‏ بوصفها خيارا
برهن علي اقتداره في جعل السلام الاجتماعي إمكانية الإمكانيات كلها‏,‏
ملاذا آمنا‏,‏ ومحفزا لصنع حضارته‏,‏ وهذا المعني للوطن لايتماهي مع أي
معني خارجه‏,‏ كما لايرد معني الوطن ــ وقوعا تحت غواية الخلط الشعبوي ــ
إلي معني غيره‏,‏ أمة كانت‏,‏ أو قومية‏,‏ أو ديانة‏,‏ أو طائفة‏,‏ تطمس
حدوده‏,‏ وتطغي علي استقلاله‏,‏ وتخترق سيادته‏,‏ وتبدد مركزيته‏,‏ وتفكك
تلاحم جماعاته بتشظي ولاءاتهم‏,‏ وتلك أشد تهديدات تواجه معني الوطن‏.‏

ينسحب
هذا التشخيص علي من يغادر مرتحلا عن وطنه‏,‏ لكن صحيح واقع الابن أنه لم
يغادر ترحالا عن الوطن‏,‏ وإنما غادر قريته عقب انتهاء إجازته‏,‏ ليعاود
استكمال فترة تجنيده‏,‏ التزاما بالواجبات العامة التي تحفظ بقاء الوطن
وتصون مصالحه‏,‏ وهو ما مارسه الأب من قبل‏,‏ ويفخر به‏,‏ مزهوا بذكريات
فترة انخراطه في الجيش محاربا مع جيله‏,‏ إنتاجا لحق وطنه واسترداده‏,‏
بتجاوز ذاته بذاته‏,‏ دفاعا عن وطنه ومصالحه‏.‏ لكن اللافت للنظر أن الرجل
وزوجته أسهما في استدامة حالة من الغموض تشوب رحيل الابن‏,‏ بانكفائهما
الداخلي الصامت الذي لايبلور حدا لفهم‏,‏ أو استلهام تخميني يمكن بلوغه‏,‏
يشي بحقيقة دوافع غموض مشاعرهما‏,‏ ومع رحيل الابن لم يعد ثمة بد من
التوقف عند حدود معطيات حال الأب والأم‏,‏ توسلا لاستجماع الكشف عن دوافع
تلك المشاعر‏.‏ تري ماسبب غضب الرجل‏,‏ وسبه لجاره بعد عودته من رفقة
ابنه؟ وما معني طلبه من زوجته أن تنظر إلي دار جاره ودارهما وتقارن
بينهما‏,‏ ثم صمتها مهمومة مطأطئة الرأس؟ لقد انهارت مملكة صمت الرجل أمام
انكسار زوجته بإجابتها الصامتة التي تبوح بأنه لا وجه للمقارنة‏,

‏وهي
حقيقة يدركها يقينا‏,‏ لكنه استدعي هذه المقارنة ليعلن لزوجته أنه لامعني
عنده لكل ما يمتلكه جاره دونه‏,‏ مفضيا إليها بتفاصيل خارطة ما توالي بينه
وبين جاره من تكاتف علي مدي أربعين عاما منذ طفولتهما‏,‏ وتجلي ذلك
التكاتف في قلب رحي الحرب الطاحنة‏,‏ عندما شاركا معا دفاعا عن الوطن‏,‏
وأصيب الجار الصديق بطلق ناري‏,‏ فحمله الرجل علي ظهره تحت الرصاص المنهمر
لأكثر من ساعتين حتي أنقذه من الموت‏.‏ لقد شكلت هذه العلاقة المتكاتفة
بالنسبة إلي الرجل قيمة‏,‏ تصورها أكبر وأبقي من كل امتلاك‏,‏ لذا تداعت
كل موثوقاته الأخلاقية حين خذله جاره بموقفه الحدي القاطع‏,‏ في مواجهة
طلبه إليه بأن يتزوج ابنهما ابنته‏,‏ ففرض شرطا مستحيلا يعرف سلفا مدي
تجاوزه الحاد لقدرته‏,‏ متمثلا في مهر ليس مغالي في عدم معقوليته فحسب‏,‏
بل يعد محنة تعري عجزه أمام ابنه عن أن يحقق له حلمه في الارتباط بمن
أحب‏.‏ وانطلاقا من أن الرجل لم يكن يستطيع أن يغير حلم ابنه‏,‏ بل حلمه
هو أيضا بوصفه أبا‏,‏

يستوجب أن يحقق لابنه حلمه‏,‏ لذا ظل في
مقاومة متصلة طوال إجازة ابنه من الجيش‏,‏ وعلي مدي خمسة عشر يوما‏,‏
متوسلا إلي جاره وهو لايرد‏,‏ خاصمه وأيضا لم يستجب‏,‏ فجرت كبرياء
الرجل‏,‏ وعندئذ تولد الغضب‏,‏ فكاد يضربه لولاتدخل الأصدقاء بمنعه‏.‏

رحل
الابن‏,‏ وبقي الأب يواجه عبثية تلك العلاقة السراب‏.‏ حاولت الزوجة إزالة
جحيم توجعات زوجها‏,‏ جبرا لضرر عدم تحقيقه حلم ابنهما‏,‏ فأخبرته بأن
مشروطيات جارهما غير مجدية‏,‏ إذ الفتاة تحب ابنهما‏,‏ وعندما يعود الابن
في إجازته القادمة‏,‏ سوف يخطف الفتاة‏,‏ ويفوز بها زوجة‏,‏ بعيدا عن
مشروطيات أبيها‏,‏ لكن الزوج استدرك فكرتها بأن الجار سيكون قد باع ابنته
قبل عودة ابنهما‏,‏ ويبدو أن الزوجة استشعرت الصاعقة النفسية التي حلت
بزوجها‏,‏ وتجلت في الاختفاء النهائي لصورة صديقه‏,‏ وحلت محلها صورة من
يتخذ ابنته وسيلة للاتجار لمن يدفع أكثر‏,‏ لذا سرعان ما حاولت أن تحقق
نوعا من المصالحة بينهما‏,‏ باستعادة زوجها للصورة المؤتلفة لديه عن
صديقه‏,‏ فراحت تهدهد مشاعره‏,‏ بتأكيد يقينها أن صديقه مازال يخجل منه
ويحترمه‏,‏ لكن الزوج في محنته‏,‏ وبتأثير عنف إنكار جاره لعلاقتهما
المتكاتفة‏,‏

كان قد تجرع من الجرح النازف من انكسار كبريائه‏,‏ سم
الغضب الذي شل حضور تفكيره‏,‏ إذ استملكه شيطان الغضب وشكل وصاية كاملة
علي تفكيره وأفعاله فلم يعد حيا‏,‏ وأيضا لم يمت‏.‏ طلب إلي زوجته أن تخلد
إلي نومها‏,‏ بعد ذلك‏,‏ وتحت ستر ظلام القرية‏,‏ تناول حجر

ا
كبيرا‏,‏ وقذف به نحو حوش دار جاره‏,‏ فهبت كلاب جاره وأجابتها كلاب
القرية بنباحها‏,‏ وشاهد الرجل جاره يخرج مستطلعا‏,‏ بعد أن هدأت
الكلاب‏,‏ عاود الرجل قاذفا حجرا‏,‏ تعالي نباح الكلاب‏,‏ وخرج الجار‏,‏
وراح ينادي صديقه مستنجدا به‏,‏ لكن الرجل لم يستجب له‏,‏ وجلس في هدوء
يدخن سيجارته‏.‏ عند منتصف الليل قذف الرجل حجرا آخر‏,‏ فجنت الكلاب‏,‏
وكاد يمزقها نباحها‏,‏ خرج الجار هذه المرة حاملا بندقيته‏,‏ وأفرغ منها
طلقة في الهواء‏,‏ رددت القرية صدي الطلقة‏,‏ وهرع كل رجال القرية وكلابها
نحو بيت الجار‏,‏ لحظتها دخل الرجل بيته وأغلق الباب‏,‏ واندس في فراشه
ساحبا اللحاف فوق رأسه مزهوا بنصره‏.‏

أنهي الكاتب التركي المعاصر
صميم قوجة غور‏,‏ أحداث قصته غضب‏,‏ بهذه الخاتمة المفتوحة‏.‏ صحيح أنه قد
غيب شخصية الجار عن الحضور المباشر‏,‏ بوصفها أهم شخصية فاعلة فجرت أحداث
الصراع‏,‏ فجعلنا أسري الصورة التي رسمها الصديق لها‏,‏ وصحيح أن هذا
الغياب حجب عنا ممارسة فعالية مبدأ مراعاة وجهة نظر الآخر‏,‏ الذي بموجبه
تستقيم محاكمتنا للعالم من حولنا‏,‏ لكن الصحيح أن الكاتب لم يكن يستهدف
مناقشة طبيعة الخلاف وصحته‏,‏ بل استهدف التركيز علي محاكمة ردود أفعال
هذا الخلاف‏,‏ ومظاهره التي تحكمها وصاية غيبت تفكير الرجل‏,‏ وذلك وفقا
لمعيار جدوي نتائجه علي واقع الرجل‏,‏ انطلاقا من أن الاستسلام لأي وصاية
ينتج عجزا‏,‏ ولايصنع معجزة‏,‏ والنهاية المفتوحة للقصة تطرح تساؤلات
الكاتب‏:‏ تري هل سيظل الرجل يقذف بالأحجار طول حياته؟ تري هل ثمن الرجل
جدوي ما يفعله؟ أليس عليه أن يشتق إمكانات مجدية‏,‏ تفتح أفقا لتغيير
واقعه‏,‏ إذ كان حريصا علي تحقيق حلم ابنه؟ ومازالت تساؤلات القصة تواجه
في راهننا كل الممارسات غير المجدية‏,‏ التي تجري من حولنا‏,‏ وتنتج
خسارات فادحة‏!!‏