حماقة القوة تصطدم باليأس‏:‏ لماذا؟ بقلم‏:‏ منير عامر

من طرف soso الإثنين فبراير 09, 2009 1:12 pm

حماقة القوة تصطدم باليأس‏:‏ لماذا؟
بقلم‏:‏ منير عامر

تبدو القوة أمام عيون أصحابها كغمامة من سحاب رمادي يمنع أصحابها من رؤية من وما أمامها‏.‏

تذكرت
تلك الجملة التي قالها د‏.‏ ثاير أستاذ دراسة المزاج البشري‏,‏ وأنا أحاور
الصديق الأستاذ الدكتور شريف بسيوني عميد معهد حقوق الانسان بجامعة ي بول
بشيكاغو ورئيس الجمعية العالمية للقانون الجنائي الدولي‏,‏ وهو من قال لي
متسائلا‏:‏ أيخفي الانسان تحت بشرته التي تدعي التحضر كل تلك الشراسة؟ إن
الانسان يخسر آدميته‏,‏ ولابد من عقاب كل محترف لخسران الآدمية‏:‏ ذكرت
د‏.‏ شريف أنه سبق وقال نفس الجملة في منتصف التسعينيات أثناء توليه مهمة
المحقق الدولي في جرائم الحرب بالبوسنة والهرسك‏,‏ والتي سقط فيها هو
شخصيا بأزمة قلبية حادة‏,‏ بعد أن رأي رأي العين‏,‏

كيف كان
الطرفان المتحاربان يمارسان أعتي درجات الوحشية والتشفي وبقوة لم يكن لها
نظير حين كان بعض من المتحاربين يقطعون رأس واحد من خصوهم ليلعبوا بها
ككرة قدم أو يتناوب مجموعة من المتقاتلين اغتصاب فتاة من المعسكر
المضاد‏,‏ وآفاق شريف بسيوني من آلامه تلك‏,‏ وقرر أن يبدأ مشروعا عالميا
لرصد كل الوان الصراعات والحروب التي وقعت منذ الحرب العالمية الثانية
وحتي الآن‏,‏ وأن تقام الدراسات والأبحاث من خلال معهد القانون الجنائي
الدولي بسيراكوزا التابع للجمعية الدولية للقانون الجنائي ال

دولي‏,‏
وتم تقسيم العالم إلي خمس مناطق تبدأ من الشرق الأوسط‏,‏ ودارت الاجتماعات
التحضيرية الأولي بمقر جامعة الدول العربية منذ أسبوعين‏,‏ ولكن صوت ذلك
المؤتمر المهم لم يكن ظاهر الأثر في الإعلام‏,‏ لأن العيون كانت مشغولة
بمتابعة ضجيج الصراع علي قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي‏,‏ فإسرائيل
علي الرغم من استخدامها للقوة المفرطة‏,‏ لم تثبت أكثر من أن القوة
الغاشمة لها ضعف ظاهر‏,‏ ونالت من الاحتقار قدرا يليق كمقدمة لثمن ستدفعه
يوما‏,‏

وأيضا لم ينل الذين دخلوا القتال في غزة سوي شفقة لا تليق
بعد أن وضعوا أهل غزة كرهائن من أجل مكان في السلطة‏,‏ ورغم ذلك علا ضجيج
من الضفتين المتنازعتين بأن كلا منهما حقق انتصارا‏.‏

وسألت شريف
بسيوني ما الذي تتوقعه بعد أن نرصد الجرائم ونقوم بتصنيف المذابح سواء في
الأراضي العربية أو إفريقيا أو في أمريكا اللاتينية أو في آسيا؟ وأجاب‏:‏
الهدف هو وضع خريطة معرفية وقانونية لتسلسل العنف‏,‏ فالتقدير المبدئي عن
ضحايا الصراعات من بعد الحرب العالمية الثانية يصل قدرا يتراوح بين سبعين
مليون إنسان ومائة وعشرين مليون إنسان‏,‏ كل واحد من هؤلاء له قصة
وحكاية‏,‏ ووقع عليه عنف أفقده حياته‏,‏ أو تركه مشوه حرب‏,‏ ولعل جمع كل
تلك الحقائق ورصدها وكشف المتسبب فيها يضع الضمير البشري أمام ضرورة
الارتفاع عن هذا النسيان المتعمد للذين تتركهم النزاعات المسلحة علي الأرض
وهم عجزة‏,‏

أو تضع بعضهم تحت الأرض في قبور قد لايتعرف علي
أماكنها أحد‏,‏ ثم إذا كانت هناك أدلة قاطعة يمكن أن نحصل بها علي تعويضات
لأهل ضحايا الصراع المسلح فلابد من إقامة قضايا من أجل تلك التعويضات أمام
المحاكم‏,‏ حتي ولو كان ذلك أمام المحكمة الجنائية الدولية‏.‏

وكان
لابد أن أنبه د‏.‏ شريف إلي مقال سبق وأن كتبه في شيكاغو تريبون عن تناول
الإعلام لضحايا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي‏,‏ وكيف ينشر الغرب أخبارهم ـ
علي كثرتهم ـ وكأنهم ماتوا في حوادث طرق‏,‏ لا مطالبين باستقلال أراضيهم
لبناء دولتهم‏,‏ ويصور الجرحي الإسرائيليين ـ علي قلتهم ـ وكأنهم ضحايا
عنف غير مسبوق‏.‏

يقول لي رجل القانون الكبير‏:‏ المسألة ليست في
نوعية أو كيفية الإعلام عن الضحايا فقط‏,‏ فشاشات الكون وتليفزيوناته نقلت
صور العنف للقصف غير العادي علي غزة‏,‏ وقد استعدت إسرائيل لذلك بتشكيل
قناعة دول الغرب بأنها تدافع عن نفسها‏,‏ ولكن بعد تكرار صور المذابح أفاق
الضمير العالمي علي هول المأساة‏,‏ ولابد أن ننتبه إلي أن دول الغرب هي
المؤثرة في القرار الدولي‏.‏

وبرغم قناعة الضمير العالمي بأن ماحدث
في غزة فاق كل توقع من حيث الشراسة وفقدان الضمير‏,‏ إلا أن تناحر
الفلسطينيين علي السلطة من قبل أن يبدأ الإستقلال الوطني بالفعل هو أمر
يقلل من قيمة التضحيات التي قدمت‏.‏

وكان لابد أن أنبهه إلي أن
العالم العربي الآن قد يكون مشغولا عن رصد ضحايا النزاعات المسلحة أو
تحديد مدع عام لتلك المسألة برمتها‏,‏ لأن الصراع مازال يدور‏,‏ سواء علي
أرض العراق أو فلسطين‏,‏ فضلا عن أن الثقة العربية في قدرة أي محكمة
عالمية هي ثقة مفقودة‏,‏ فنحن لم ننس بعد تجربة تأسيس المحكمة الجنائية
الدولية‏,‏ وكيف كانت الفكرة كلها نابعة من أرض مصر ومن ضميره الشخصي
كأستاذ قانون جنائي دولي‏,‏

إلي أن وصلت إلي الأمم المتحدة ومجلس
الأمن‏,‏ وظلت الدول الكبري تماطل وتسوف‏,‏ وتضيف وتحذف‏,‏ فلم تنعقد تلك
المحكمة إلا لمحاكمة ضعاف مهزومين من معارك الصرب‏,‏ واستثنت الولايات
المتحدة نفسها من محاكمة جنودها الذين حاربوا في العراق من تلك المحكمة
بقرار من مجلس الأمن‏,‏ ثم جاء فصل هزلي معاصر‏,‏ ينادي به المحقق الدولي
أوكامبو الذي يمارس الآن ضغوطا لجر بعض من قادة السودان إلي تلك
المحكمة‏,‏ متجاهلا إجراء تحريات أو جمع أدلة علي ماجري من مذابح في
العراق‏,‏ وما يجري من مذابح علي أرض فلسطين‏.‏

يقول شريف
بسيوني‏:‏ أنت تعلم أن فضائح أبو غريب تم التحقيق فيها‏,‏ وإن لم يكن
العقاب قد روي إحساس الناس بالعدالة إلا أنه خطوة علي الطريق‏,‏ قد تتلوه
في قادم الأيام خطوات أخري‏,‏ ثم إن جمع أحد الأدلة وأجري التحريات عما
حدث في أرض غزة كجزء من فلسطين‏,‏ فلابد أن تجد مكانا تتم مناقشتها فيه‏,‏
المهم هو أن نبدأ‏.‏

أخذت أفكر في أن كلا من الطرفين الفلسطيني
والإسرائيلي مازال يملأ الدنيا ضجيجا عن الانتصار الذي حققه كل منهما‏,‏
مع أن الطرفين خرجا من تلك المعركة‏,‏ وهما يعانيان من هزيمة مريرة‏,‏
ومازال الضمير العالمي نائما لم ينتبه تماما إلي حجم الحماقة المصطدمة
بيأس إلغاء وجود الآخر‏,‏ وهو إلغاء لم تستطع قوة علي ظهر الأرض أن تحققه
من قبل‏.‏