مفاهيم الأمــــة بقلم‏:‏ د‏.‏ طه جابر العلواني

من طرف soso الإثنين فبراير 09, 2009 1:21 pm

مفاهيم
الأمــــة
بقلم‏:‏ د‏.‏ طه جابر العلواني

وردت
كلمة أمة في القرآن الكريم في مواضع عديدة وأريد بها الجماعة من الناس
الذين تجمعهم طريقة واحدة ورؤية واحدة‏,‏ وتسود بينهم معرفة وثقافة
واحدة‏,‏ كما يراد بها الأصل والمرجع والقصد وما إلي ذلك‏,‏ فهي اسم لمن
يتجمعون علي أمر مهم ويشتركون في رؤية ومنهج وغاية وما إلي ذلك‏,‏ من أمور
مهمة‏,‏ وأطلقت مرة علي إبراهيم عليه السلام للإشارة إلي فضله وأهميته
وأنه أصل يتجمع حوله فقال تعالي‏:‏ إن إبراهيم كان أمة‏(‏ النحل‏:120).‏

وأمتنا
المسلمة شكلها القرآن الكريم‏,‏ فهو الذي أسس رابطتها وبني دعائمها وأوضح
منهاجها لتكون الأمة التي تنظر البشرية إليها علي أنها نموذج ومثال وقطب
تلتف حوله‏,‏ ولذلك فقد ضمن الإسلام مفهوم الأمة أبعادا كثيرة لايمكن لها
أن تقوم بها إلا إذا كانت أمة موحدة لا تطرأ عليها الفرقة‏,‏ ومن تلك
المفاهيم والأبعاد التي تضمنها مفهوم الأمة في لسان القرآن واللسان العربي
الأمانة‏,‏ والاستخلاف‏,‏ والشهود الحضاري‏,‏ والخيرية‏,‏ والوسطية‏,‏
والابتلاء‏,‏ والعمران‏,‏ والأمر بالمعروف‏,‏ والنهي عن المنكر والدعوة
إلي الخير‏,‏ وتكريم الإنسان وعدم استبعاده‏,‏ وتوحيد الله بالالهية
والربوبية والصفات‏,‏ والإيمان بالأنبياء كافة‏,‏ وحماية الضعفاء فيها من
الأقوياء المعتدين‏,‏ والإحسان إلي الناس كافة وهذه كلها لايمكن القيام
بها والأمة مفرقة إلي طوائف ومذاهب وفئات وأحزاب وما إلي ذلك‏.‏

ولذلك
كانت وحدة الأمة ركنا أساسيا من أركان إيمانها ودعامة مهمة من دعائم
وجودها‏,‏ فإذا تفرقت كلمتها فإنها تتحول عن كل تلك المعاني لتصبح غثاء
كغثاء السيل لاتنفع ولاتدفع عن أجزائها شرا ولاتجلب لها نفعا وتصبح قابلة
لإذلال غيرها لها‏,‏ ولذلك فإن عصمتها تكمن في وحدتها وتضامنها وتكافلها
وإذا فرطت بوحدتها فكأنها تفرط في وجودها وحياتها وحاضرها ومستقبلها‏,‏
إضافة إلي تفريطها في دورها وموقعها بين البشرية‏.‏

وهذه الأمة في
حاجة دائمة إلي المحافظة علي وحدتها وعلي قوتها ومعرفتها وعلمها وقابلية
التجدد والحيوية فيها وتجاوز العجز‏,‏ ويأبي مفهوم الأمة الظلم والطغيان
والخيانة ومجافاة الأمانة والتطرف والتعصب وممارسة أي شيء يفرق كلمة الأمة
ويفسد ذات بينها‏.‏

ومن المؤسف أن مفهوم الأمة في عصرنا هذا قد
جهله الكثيرون فأدي إلي ضعفه في قلوب الناس وأوجد لديهم استعدادا للتفرق
والتمزق ومجافاة الأخ‏,‏ وفصارت الأمراض المختلفة‏,‏ والاختلاف والفرقة هي
السمة الغالبة فتراجع دورها وصارت كما في الحديث الشريف الذي أخرجه أحمد
عن ثوبان قال‏:‏ قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم‏:‏ يوشك الأمم
أن تداعي عليكم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها فقال قائل‏:‏ ومن قلة نحن
يومئذ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من
صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن‏.‏ فقال قائل‏:‏ يا
رسول الله وما الوهن؟ قال‏:‏ حب الدنيا وكراهية الموت صارت بمثابة قصعة
تداعي الأمم إلي أكلها كما أصبحت هينة علي خصومها وأعدائها يجترئ عليها
وعلي النيل منها من لا يدفع عن نفسه‏,‏ فلم يعد لها في قلوب الدول والبشر
ذلك الاحترام أو التقدير الذي حظيت به حين كانت أمة موحدة‏.‏

وقد
كتب السيد جمال الدين الأفغاني مقالة‏(‏ عام‏1300‏ هـ‏)‏ وصف فيها الحالة
قبل‏(130)‏ عاما‏,‏ جاء فيها إن الشرق بعد أن كان له من الجاه الرفيع سقط
عن مكانته واستولي الفقر والفاقة علي ساكنيه وغلب الذل والاستكانة علي
عامريه وتسلطت عليه الأجانب واستبدت بأهله الأبعاد‏,‏ لإعراض الشرقيين عن
الاستنارة بعقولهم وتطرق الفساد إلي أخلاقهم‏.‏ لايتدبرون أمرا ولايتقون
في أعمالهم شرا طرأ علي عقولهم السبات ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح
شئونهم وعميت أبصارهم عن إدراك النوازل التي أحاطت بهم‏,‏ ويسرعون في
ظلمات لايحسون المصائب قبل أن تقصم أجسادهم‏,‏ وينسونها بعد زوال
آلامها‏,‏ ولايشعرون لاستيلاء الغباوة وسيطرة ظلمات الجهل علي بصائرهم
لاتحملهم نفوسهم عن طلب المجد والعزة وبقاء الذكر‏,‏ لايدرون عواقبهم‏,‏
ولايدكون مآل أمرهم‏,‏ ولايحذرون مايتربص بهم من أمامهم ومن خلفهم‏,‏

ولايفقهون
مايضمره الدهر لهم من الشدائد وألفوا الصغار وأنسوا الهوان وأنقادوا
للعبودية ونسوا ماكان لهم من المجد المؤثل والمقام الأمثل لقد انهمكوا في
الشهوات الدنيوية وغاصوا في اللذات البدنية وتخلقوا بالأخلاق البهيمية
يفترس قويهم ضعيفهم‏,‏ ويستعبد عزيزهم ذليلهم‏,‏ يخونون أوطانهم‏,‏
ويظلمون جيرانهم‏,‏ ويستلبون أموال ضعفائهم‏,‏ ويخيسون بعهودهم‏,‏ ويسعون
في خراب بلادهم‏,‏ ويمكنون الأجانب من ديارهم‏,‏ لايحمون غمارا ولايخشون
عارا‏,‏ ثم حاول أن يصف أهم ما يخرجهم من المشكلات التي يعانونها فأكد
ضرورة توحيد كلمتهم وإعادة بناء الأمة من جديد ثم قال‏:‏ وبعد مائة
وثلاثين سنة لاتجد إلا وحدة الأمة علاجا لمشكلاتها وحماية لها من سائر
المخاطر والتهديدات‏.‏