الأغنياء والدور الاجتماعي المفروض بقلم‏:‏ د‏.‏ محمد شوقي الفنجري عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف

من طرف soso الإثنين فبراير 09, 2009 1:22 pm

حوارات معاصرة
الأغنياء والدور الاجتماعي المفروض
بقلم‏:‏ د‏.‏ محمد شوقي الفنجري
عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف

الأغنياء والدور الاجتماعي المفروض بقلم‏:‏ د‏.‏ محمد شوقي الفنجري عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف 44625_1m

ظاهرة
الثراء تواجه آراء مختلفة بين متعاطف أو ناقد أو متحفظ‏,‏ وذلك بحسب
الجانب الذي ينظر منه أو الزاوية التي يركز عليها‏.‏ وحتي لا يكون هناك
خلط في الأوراق أو المفاهيم الإسلامية‏,‏ ووضعا للأمور في نصابها‏,‏ نبادر
بالتذكير بالحقائق والأصول الاسلامية الآتية‏:‏ـ

أولا‏:‏ ان المال
في الاسلام هو مال الله والبشر مستخلفون فيه بقوله تعالي وأنفقوا مما
جعلكم مستخلفين فيه‏,‏ وقوله تعالي وآتوهم من مال الله الذي آتاكم‏.‏ ومن
ثم فإنه بمقتضي الاسلام‏,‏ حيازة البعض للمال لا تعتبر امتلاكا وانما هي
أمانة ومسئولية‏.‏ وفي ذلك يقول الله تعالي ولتسألن يومئذ عن النعيم‏,‏
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام‏(‏ لا بأس بالغني لمن أتقي‏).‏ وفي حديث
قدسي أنه يوم القيامة والحساب يسأل كل فرد‏(‏ عمرك فيما قضيته ومالك فيما
أفنيته‏).‏

ثانيا‏:‏ إن الاسلام لا يضع حدا أعلي للملكية أو
الثراء‏,‏ مادام الاغتناء مشروعا ومن كسب طيب‏,‏ وذلك حفزا للهمم وتشجيعا
للمبادرات الفردية‏,‏ ولكن الاسلام علي خلاف كافة النظم الوضعية‏,‏ ينفرد
بوضع قيود عديدة علي استخدام أو استعمال المال باعتباره في حقيقته مال
الله ورزقه الذي إستأمن عليه بعض عباده‏,‏ فهو مجرد وظيفة اجتماعية
وبعبارة أدق وظيفة شرعية ذلك لأنه‏:‏

‏1‏ـ لا يملك المسلم أن يكنز
ماله أو يحبسه عن التداول والانتاج‏,‏ إعمالا لقوله تعالي والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏).‏

‏2‏ـ
كما لا يملك ان يصرف ماله علي غير مقتضي العقل وإلا عد بنص القرآن سفيها
وجاز الحجر عليه‏,‏ وذلك بقوله تعالي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل
الله لكم قياما‏.‏

‏3‏ـ كذلك لا يملك ان يعيش عيشة مترفة وإلا عد
بنص القرآن مجرما‏.‏ وذلك بقوله تعالي واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه
وكانوا مجرمين‏.‏

‏4‏ـ ليس للثري أو المليونير المسلم إزاء المال
الفائض عن حاجته بغير سرف أو ترف‏.‏ ان يتصرف فيه إلا علي أحد خيارين‏:‏
إما استثماره في مشروعات انتاجية تعود بالنفع علي المجتمع‏,‏ وإما إنفاقه
مباشرة علي الفقراء والمحتاجين‏.‏

فإذا صح ان من بين المبشرين
بالجنة أثرياء أو مليونيرات بمصطلح اليوم‏,‏ فهو ثري أو مليونير بالمفهوم
الاسلامي‏,‏ أي بالضوابط أو القيود السالف ذكرها‏.‏ ولم تكن المسارعة إلي
البذل في الخير والانفاق في سبيل الله من شأن المكثرين وحدهم‏,‏ بل كان
ذلك أيضا من المقلين حتي كان منهم من يؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة‏,‏ وفيهم نزل قول الله تعالي ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏.‏

ثالثا‏:‏ إن المال في
الاسلام لا يلتزم فقط بالزكاة بمقاديرها المحدودة فحسب كما يتصور خطأ
البعض‏,‏ وانما يلتزم أيضا بالتزامات أخري منها الضرائب والإنفاق في سبيل
الله‏,‏ بقوله تعالي لن تنالوا البر حتي تنفقوا مما تحبون وقوله تعالي
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة وقول الرسول عليه
الصلاة والسلام‏(‏ ان في المال حقا سوي الزكاة‏),‏ وذلك عقب تلاوته لآية
ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب والتي نصت علي الانفاق ثم
الصلاة ثم الزكاة للدلالة علي ان كلا منها فريضة مستقلة مطلوبة‏.‏

ومن
المجمع عليه ان الانفاق في المجتمعات الفقيرة لا يكون تطوعا او تفضلا
يقدمه الاثرياء للمحتاجين كما يتصور خطأ البعض‏.‏ وانما هو مثل الصلاة
يصبح فريضة الزامية علي كل مسلم ان يؤديه علاوة علي الزكاة المعلومة‏,‏
وذلك بقدر ما وسع الله عليه كما ان الدولة تلتزم بتحصيله أخذا من فضول
الاغنياء بقدر ما يكفي الفقراء‏,‏ وذلك إعمالا لقول الرسول عليه الصلاة
والسلام‏(‏ تؤخذ من اغنيائهم فترد علي فقرائهم‏),‏ وقول الخليفة الرابع
علي بن ابي طالب‏(‏ ان الله فرض علي الاغنياء في اموالهم بقدر ما يكفي
فقراءهم‏).‏ وفي هذا المعني يقول الإمام السرخسي في كتابه المبسوط‏(‏ وعلي
الامام ان يتقي الله في صرف الأموال إلي المصارف فلا يدع فقيرا إلا أعطاه
من الصدقات أي الزكاة حتي يغنيه وعياله‏,‏ وان احتاج بعض المسلمين وليس في
بيت المال من الصدقات شيء أعطي الإمام ما يحتاجون من بيت المال‏).‏

رابعا‏:‏
إن من أهم بل وأولي الأصول الاقتصادية الإسلامية ضمان حد الكفاية لكل فرد
أي المستوي اللائق للمعيشة‏,‏ وليس مجرد حد الكفاف أي المستوي الأدني
للمعيشة‏.‏ وذلك كحق طبيعي لكل إنسان وجد في مجتمع إسلامي أيا كانت ديانته
وأيا كانت جنسيته‏.‏ وهو في ذات الوقت حق إلهي مقدس يعلو فوق كل الحقوق‏,‏
بغية تحرير الإنسان من عبودية الفقر والحاجة‏,‏ وليكن بحق كما اراد
خالقه‏(‏ خليفة الله في أرضه‏).‏ بمعني أنه لابد أن يتوافر لكل فرد يتواجد
في أي مجتمع إسلامي المستوي اللائق للمعيشة المصطلح عليه بحد الكفاية
والذي يختلف باختلاف الزمان والمكان وباختلاف الأشخاص‏,‏ وهو ما يوفره
لنفسه بجهده وعمله‏.‏ والجديد الذي أتي به الإسلام منذ خمسة عشر قرنا‏,‏
أنه إذا عجز الفرد أن يوفر لنفسه حد الكفاية المذكور‏,‏ لسبب خارج عن
إرادته كمرض أو عجز أو شيخوخة‏,‏ فإن نفقته تكون واجبة في بيت مال
المسلمين‏,‏ أي خزانة الدولة وبالذات من فرع الزكاة ببيت المال‏.‏

خامسا‏:‏
إن الإسلام لا يتصور الثروة والغني إلا بعد القضاء علي الفقر والحرمان‏,‏
وان أداته في ذلك هي اولا فريضة الزكاة بمقاديرها المعروفة‏(‏ وللعلم ان
الزكاة الواجبة علي الودائع الاستثمارية في بنوك مصر وحدها تتجاوز اليوم
عدة مليارات من الجنيهات‏),‏ فإن لم تكف حصيلة الزكاة فإنه تكملها ثانيا
فريضة الانفاق في سبيل الله والتي من المفترض ان تقدرها الدولة‏,‏ وتحصلها
من فوائض الأغنياء بالقدر الذي يكفي الفقراء ويقضي علي ظاهرة الحرمان‏,‏
فالقرآن يقول وفي أموالهم حق للسائل والمحروم‏,‏ وهذا الحق هو حد الكفاية
لا مجرد حد الكفاف‏,‏ ويعتبر القرآن إنكار هذا الحق هو بمثابة تكذيب للدين
بقوله تعالي أرأيت الذي يكذب بالدين‏,‏ فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض علي
طعام المسكين‏.‏ والحديث النبوي يقول‏(‏ والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره
إلي جنبه جائع وهو يعلم‏),‏ ويقول‏(‏ أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا
فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله‏)‏ ويقول عليه الصلاة والسلام كما ورد بسنن
أبي داود‏(‏ إذا بات امرؤ جائعا فلا حق لأحد في مال‏).‏

سادسا‏:‏
إن الإسلام ضد التفاوت الشديد في توزيع الثروات‏,‏ ويحرص علي تحقيق
التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع‏,‏ بحيث لا يتصور ان تنفرد فئة قليلة
من الناس بخيرات المجتمع‏,‏ بينما الأغلبية الكادحة تعيش بالكاد‏,‏ وذلك
بقوله تعالي‏(‏ كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم‏),‏ بمعني ألا يجوز ان
يكون المال متداولا بين فئة قليلة من الناس‏,‏ بل يجب ان يعم الخير
الجميع‏,‏ وكما هو معروف أن التفاوت الشديد في توزيع الثروات يمحق تماسك
المجتمع‏,‏ ويؤدي إلي الكثير من المساوئ والمفاسد‏.‏

ولذلك تعين
علي أولياء الأمور التدخل لإعادة التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع
كلما افتقد هذا التوازن‏,‏ وهو الأمر الذي طبقه الرسول عليه السلام
والخلفاء الراشدون من بعده‏.‏ ومن قبيل ذلك توزيعه صلي الله عليه وسلم فيء
بني النضير علي المهاجرين واثنين فقط من الانصار كانوا فقراء‏,‏ ومن قبيل
ذلك ايضا رفض الخليفة الثاني عمر بن الخطاب توزيع الأراضي المفتوحة علي
المحاربين وقصره حكم الغنائم علي المنقولات كالأسلحة والأطعمة وليس علي
الأراضي الزراعية مما يخل بالتوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع‏.‏

سابعا‏:‏
إن الإسلام يعمل علي إغناء الفقير دون الغني‏,‏ وفي هذا المعني يقول
الخليفة الثاني عمر بن الخطاب‏(‏ ما من أحد إلا وله في هذا المال حق‏:‏
الرجل وحاجته ـ أي كفايته ـ ثم الرجل وبلاؤه ـ أي عمله‏)‏ ويقول رضي الله
عنه‏(‏ اني حريص علي ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض‏,‏ فإذا
عجزنا تأسينا في عيشنا حتي نستوي في الكفاف‏),‏ ويذهب رضي الله عنه عام
المجاعة سنة‏18‏ هـ الي ابعد من ذلك فيقول‏(‏ لو لم أجد للناس ما يمكنهم
الا ان ادخل علي كل بيت عدتهم ـ اي مثل عددهم ـ فيقاسموهم انصاف بطونهم
حتي يأتي الله بالحياة ـ اي المطر ـ لفعلت فإنهم لن يهلكوا علي انصاف
بطونهم‏).‏

وختاما‏:‏ نقول مرحبا بالأثرياء والمليونيرات إعمالا
لقوله تعالي‏(‏ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن‏),‏ ولم
يقل تعالي‏(‏ كل ما اكتسبوا او اكتسبن‏),‏ وإعمالا للحديث النبوي‏(‏ لا
بأس بالغني لمن اتقي‏)‏ أي من قام بالتزاماته الشرعية علي نحو ما
اوضحنا‏,‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏(‏ تؤخذ من اغنيائهم فترد علي
فقرائهم‏)‏ اشارة الي حتمية الضرائب التصاعدية بقدر ما يكفي المحتاجين‏.‏

ومرحبا
برجال الأعمال والمليونيرات المشبعين بروح الاسلام التي تعتبر المال مال
الله‏,‏ له وظيفة اجتماعية‏,‏ وأنه في يد صاحبه مجرد أمانة يسأل عنها‏,‏
فتراهم يستثمرون أموالهم نافعين انفسهم ومجتمعاتهم بلا استغلال او استفزاز
او ابتزاز‏,‏ والذين يوفون بالتزاماتهم الشرعية الثلاثة ممثلة في الضرائب
والزكاة والانفاق في سبيل الله‏.‏

وطوبي لرجال الأعمال الذين
يجمعون بين النشاط الاقتصادي وبين النشاط الخيري مدركين بوعي ان لهم رسالة
في الحياة وأنهم خلفاء الله في ارضه كلفهم بتعميرها‏.‏