حد فاصل بين عهدين بقلم‏:‏ أحمد عبدالمعطي حجازي

من طرف صفاء الأربعاء فبراير 11, 2009 4:18 pm

حد فاصل بين عهدين
بقلم‏:‏ أحمد عبدالمعطي حجازي

في
أواسط الخمسينيات من القرن الماضي‏,‏ وكنت لا أزال في الشعر مبتدئا‏,‏
وكنت في بداياتي رومانتيكيا أكره المدن وأحن لحياتي الأولي في أحضان
الطبيعة‏,‏ وأكره الحاضر واحن للماضي ـ في ذلك الوقت اردت ان اجرب نفسي في
قصيدة قصصية تستمد موضوعها من حوادث التاريخ‏.‏ وقد اخترت من هذه الحوادث
المصير الفاجع الذي لقيه المماليك علي يد محمد علي‏.‏

كان المماليك
في ذلك الوقت ـ بداية العقد الثاني من القرن التاسع عشر ـ هم البقية
الباقية من النظام القديم الذي كانوا يقتسمون فيه السلطة مع السلطان
العثماني‏,‏ غير انهم هزموا علي يد بونابرت وتفرقوا في البلاد‏,‏ ولم يبق
منهم إلا جماعة قليلة كانت تناوئ الوالي الجديد ــ محمد علي ـ الذي كان
يستعد لإرسال قواته بقيادة ابنه طوسون الي الجزيرة العربية لينقذ الأماكن
المقدسة من أيدي الوهابيين‏.‏ وقد خشي أن ينتهز المماليك فرصة رحيل قواته
ووجوده في القاهرة دون حماية كافية ليخرجوا عليه فقرر ان يتغدي بهم قبل ان
يتعشوا به كما يقول المثل الدارج‏,‏ وهكذا دعاهم ليحتفل معهم بتوديع ابنه
في القلعة‏.‏ فلما اكتمل جمعهم أمر جنوده بإغلاق الأبواب وإطلاق النار
عليهم حيث وجدوهم‏,‏ وتلك هي الواقعة التي نظمت فيها قصيدتي مذبحة
القلعة‏.‏

في هذه القصيدة لم آخذ بمنطق محمد علي ولم اقف في صفه
برغم اعجابي بما صنعه لمصر‏,‏ وانما وقفت الي جانب المماليك لأن المماليك
كانوا في نظري يمثلون ماضيا مشرفا دمره العثمانيون ومن بعدهم الفرنسيون
ولم يتبق منه إلا آثاره التي تدل عليه وتستدعي الحنين إليه‏.‏ وكانوا بعد
ذلك قلة‏,‏ لم تبدأ محمد علي بالعدوان بل هو الذي بدأهم به‏,‏ فلم يحاربهم
وجها لوجه كما ينبغي في الخصومة الشريفة‏,‏ وإنما طعنهم في ظهورهم وهم
آمنون له‏,‏ مدعوون علي مائدته‏.‏ وبهذه الروح نظمت القصيدة فجعلتها مرثية
للمماليك الذين يضرب المثل بجمالهم ونبالتهم في الريف المصري‏,‏ وعبرت عن
احتقاري للأسلوب الذي اتبعه محمد علي في التخلص منهم‏.‏

في ذلك
الوقت ـ عام‏1956‏ ـ الذي حقق فيه ضباط يوليو نجاحاتهم الأولي التي جلبت
لهم شعبية كانوا بفتقرون إليها‏:‏ اتفاقية الجلاء‏,‏ ومؤتمر باندونج‏,‏
وتأميم قناة السويس ـ في ذلك الوقت‏,‏ كانت حركة التجديد الأدبية والفنية
في ذروة نشاطها واقصي اتساعها‏.‏ وكان اليساريون المصريون علي اختلاف
ألوانهم وتنظيماتهم يلعبون فيها أخطر الادوار‏,‏ ويتحركون في كل مجال ومما
قدموه في تلك الفترة مجلة ثقافية سموها كتابات مصرية كان يشارك فيه
تحريرها حسن فؤاد‏,‏ وعلي الراعي‏,‏ ومحمود امين العالم الذي نشر لي قصيدة
مذبحة القلعة في هذه المجلة بعد ان اعترض علي نشرها علي الراعي‏.‏

كان
الدكتور الراعي مثقفا يساريا مرموقا‏,‏ وكان استاذا للأدب الانجليزي تخصص
في المسرح واشتغل بالنقد كما هو معروف‏,‏ وقد رأي اني اتعاطف مع المماليك
في قصيدتي فاعترض علي نشرها في هذه المجلة اليسارية التي يجب ان تكون
منبرا للأدب الملتزم‏,‏ وألا تنشر ما يتعارض مع مبادئ الواقعية الاشتراكية
التي تطلب من الشاعر او الكاتب ان يقف في الصراعات التي يعالجها الي جانب
الطرف المتقدم الممثل لحركة التاريخ‏,‏ ومحمد علي في الصراع الذي دار بينه
وبين المماليك هو الطرف الطليعي لأنه كان يقود مصر في سعيها للانتقال من
العصور الوسطي للعصور الحديثة‏,‏ ومن السلطة الدينية الي السلطة
الوطنية‏,‏ ومن التبعية للعثمانيين الي الاستقلال‏,‏ ومن المجتمع الزراعي
المتخلف الي المجتمع الصناعي الحديث‏,‏ ومن هنا كان من واجبي ـ في نظر
الدكتور الراعي ـ ان اقف في القصيدة الي جانب محمد علي لا الي جانب
المماليك الذين كانوا يمثلون النظام الاقطاعي المنهار والماضي المظلم
المتخلف‏.‏

والحقيقة اني في مذبحة القلعة لم أكن اتحدث عن صراع
بقدر ما تحدثت عن نهاية صراع‏,‏ لم اقف امام حركة التاريخ‏,‏ بل وقفت امام
المصير الإنساني كما يمثله افراد بالذات لهم من صفاتهم وشمائلهم ما يجعلني
اتعاطف معهم ولو كانوا من ألد اعدائي انا بالذات‏.‏

تحدثت عن
المماليك‏,‏ وعبرت عن اعجابي بهم‏,‏ وعطفت عليهم ولم اتحدث عن محمد علي
إلا من بعيد باعتباره الطرف الآخر الذي كان يحرك الاحداث وهو جالس في
الظل‏,‏ وتلك هي الصورة التي قدمتها‏.‏ لم اكن أعالج صراعا التزم فيه
جانبا‏,‏ وإنما كنت ارثي عصرا مضي‏,‏ وأتأسف علي مصير فاجع‏,‏ وأصور نهاية
كان المماليك يستحقون أنبل منها‏,‏ اعني اني كنت في هذه القصيدة اعبر عن
موقف اخلاقي‏,‏ أما الدكتور علي الراعي فكان يبحث في القصيدة عن موقف
سياسي لم يجده‏,‏ ولهذا اعترض علي نشرها وهذا ما حدثني عنه الدكتور الراعي
نفسه‏.‏ غير ان القصيدة نشرت لأن محمود امين العالم رأي ان تنشر وهذا هو
الموقف الذي لم افهمه‏.‏

لقد فهمت اعتراض الدكتور الراعي بعد ان
فسره لي‏.‏ لكنني لم افهم رضا العالم عن القصيدة‏,‏ وتصريحه بنشرها‏,‏ لأن
ايمان العالم بمبادئ الواقعية الاشتراكية لم يكن اقل من إيمان الراعي
بها‏.‏ بل ان العالم هو اول من بشر بهذه المبادئ هو ورفيقه عبد العظيم
انيس في كتابهما في الثقافة المصرية الذي كان بحق فاصلا بين عهدين‏,‏ عهد
كانت فيه الكتابة فنا لا يطلب فيه إلا ان يكون جميلا متقنا معبرا عن فكر
صاحبه أيا كان هذا الفكر‏,‏ وعهد اصبحت فيه الكتابة موقفا سياسيا ومسئولية
اجتماعية قبل ان تكون جمالا وتعبيرا‏,‏ وفي الفصل المنشور في هذا الكتاب
بعنوان الشعر المصري الحديث ينظر العالم الذي كتب هذا الفصل للشعراء
المصريين بوصفهم تعبيرا عن طبقات اجتماعية‏,‏ فالبارودي تعبير عن طبقة
كبار ملاك الارض وكبار التجار والعلماء الذين ارادوا ان يحققوا للبلاد
استقلالها في الثورة العرابية‏.‏ وكان شوقي وحافظ ومحرم ونسيم ومطران
تعبيرا عن هذه الطبقة بعد ان وصلت للسلطة وانفردت بها‏,‏ ثم جاء
الرومانتيكيون والرمزيون من الطبقة الوسطي‏.‏ واخيرا ظهر الشعراء الجدد
وهم اليساريون الذين ارتبطوا بالطبقات الكادحة وعبروا عن آمالها من أمثال
كمال عبد الحليم‏,‏ وعبد الرحمن الشرقاوي‏,‏ ونجيب سرور‏,‏ وصلاح عبد
الصبور‏.‏

لماذا إذن تحمس العالم لقصيدة تتعاطف مع المماليك وتدين ما فعله بهم محمد علي؟

ربما
راجع العالم نفسه فخفف من غلوائه واخذ يوازن بين ما يجب للفن في القصيدة
وما يجب للسياسة‏,‏ والعالم شاعر قبل ان يكون ناقدا‏,‏ وانسان قبل ان يكون
يساريا‏,‏ وقد رأيناه يعدل موقفه القاسي من نجيب محفوظ‏,‏ فمن المحتمل أن
يكون عدل موقفه من الشعر ايضا‏.‏
‏
***‏

لكني لم اقصد بهذه
الذكريات ان اتحدث عن قصيدتي‏,‏ وإنما عدت اليها لأتحدث عن محمود
العالم‏,‏ وعن كتابه الذي نستطيع ان نختلف معه ونراجع أحكامه‏,‏ لكننا لا
نستطيع إلا الاعتراف بأنه كان حدا فاصلا بين عهدين في الثقافة المصرية‏.‏