الإمام "الغيطاني" محمد العزبي

من غير ليه
محمد العزبي
ezaby azaby @ yahoo. com
الإمام "الغيطاني"

عرفته منذ ما يقترب من خمسين عاما في ظروف صعبة وراء أبواب مغلقة مازلنا جميعا نذكرها وان لم نكرهها بالقدر الكافي.


كانت مجموعة نادرة من شباب ملأ الحماس قلبه فغرق في حب الوطن ولكنه
أغضب أباه "النظام الحاكم" قليلا فأودعهم جميعا ما بين سجن مزرعة طرة
ومعتقل القلعة.

تميزوا بأنهم فنانون شعراء وأدباء ونقاد ربما لم يسمع بهم وقتها
كثيرون. فأصبحوا نجوما لامعة وأصيلة.. عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجارب وسيد
خميس وصبري حافظ وآخرون كل منهم لديه موهبة تتفجر.

كان "جمال الغيطاني" أصغرهم سنا وأقلهم ضجيجا وأكثرهم شرودا حتي لحق
بنا يحيي الطاهر عبدالله بعد أيام من محاولته الاختفاء والهرب واشتهر بقصة
وفيلم "الطوق والأسورة" ثم مات شابا في حادث طريق.

ولقد تمنيت أن يكتب صلاح عيسي تجربة تلك "الحبسة" المتميزة العابرة
بمناخها واشخاصها ففيها بعض السياسة والكثير من الأدب. وهو الذي عاش في
قلبها والأقدر علي وصفها ولكنه فضل أعمالا أخري يؤرخ لها علي طريقته.

الواقع ان الجميع يهربون من ذكر ما جري إلا في كلمات عابرة. كأن يقول
"الغيطاني" في الدفتر السادس من دفاتر التكوين "رن" الذي نال عنه مؤخرا
جائزة الشيخ زايد للكتاب وهو يصف رحلة إلي الجنوب متجها إلي عمق الصحراء
في طريق يمتد باتجاه النهر واطراف الوادي وكأنه يشق الصحراء المجدبة
الموحشة لكنه جد قريب من العمار ويقول بأن هذا الانفراد عن قرب. ليس بجديد
عليه مثلما الزم بالبقاء قسرا في الحبس الانفرادي بمعتقل القلعة يصل إليه
ضجيج الميدان وأصوات تلاميذ المدارس القادمين في رحلات للفرجة والتسرية
نهارا وليلا يصغي إلي صفير القطار المنبعث من أفق المدينة.

لكن هذا مقدور عليه إذا قورن بالنفي القادم من عنده الطالع منه.. تمتد به الوحشة حتي لو كان بين جمع أو يلزم الصمت حتي لو تحدث.


هكذا خرج جمال الغيطاني في رحلة الهجاج.. لم يخبر سوي أهله ومن خرجا
من صلبه وترائبه وقد ودعوه بالتمني الا تطول الغيبة وان تكتب له السلامة
في كل خطوة.

ليست الجائزة الأولي التي حصل عليها ولا العمل الوحيد الذي أثري به
المكتبة العربية فقد صار الإمام بعد غياب نجيب محفوظ وإذا كانت الصلة
المباشرة بيني وبين سجناء القلعة قد انقطعت إلا ان ذلك لم يمنع قلقي إذا
مرض أحدهم وفرحي كلما افاضوا في العطاء ونالوا ما يستحقون.

سار الكاتب بذكرياته وعبر الاساطير في رحلة خيالية واقعية منطلقا من
هضبة الأهرام باتجاه قبلي ويأخذنا معه ليسأل وهو في أخميم بلد الاثار
والحرير من كان الأسبق "الصين أم أخميم؟" يرافقنا الماضي ويهدينا سيدنا
"ذو النون" بين الخيال والواقع وأماكن لم يزرها واشخاص لم يلتق بهم.

أما العنوان فجاء من "شنة ورنة" ويعني الاسم وماهيته في مكان الدفتر السادس من دفاتر التدوين "رن".


ليست الجائزة عن كتاب واحد. وإنما عن مسيرة عطاء عمرها أيضا خمسون
عاما وموقف في الحياة لم تغيره الأيام.. ولا المائة وعشرون ألف دولار قيمة
الجائزة الأخيرة!