مستقبل تحالف القرن بقلم : سمير مرقص

من طرف صفاء الأحد فبراير 15, 2009 11:50 am

مستقبل تحالف القرن
بقلم : سمير مرقص

مع
نهاية السبعينيات‏,‏ وتحديدا في سنة‏1979,‏ أي منذ‏30‏ عاما بالتمام
والكمال‏,‏ وقعت مجموعة من الأحداث المتتالية اتسمت بالطابع الديني
اللافت‏,‏ كان أولها عندما شجع الرئيس كارتر شخصيا الاحتفال الرسمي بذكري
إبادة اليهود في أوروبا علي يد النازية‏,‏ وافتتاح متحف خاص بالمحرقة في
واشنطن‏,‏ وتم توظيف ذلك دينيا علي المستوي اليهودي‏,‏ وبعدها بأشهر قامت
الثورة الخومينية‏,‏ ثم انتخب البابا يوحنا بولس الثاني‏,‏ وصعود التيار
الديني المحافظ في أمريكا‏.‏ كما شهد العالم إحياء الكثير من الخصوصيات
الدينية والمذهبية والعقائدية‏.‏

إنها الظاهرة التي وصفها أحد
الباحثين الفرنسيين المعتبرين برتران بادي‏,‏ بأنها الأحداث التي أسهمت في
انقلاب المسرح العالمي وعودة المقدس‏/‏ الديني إليه‏,‏ وبرغم الاختلاف
النوعي بين الأحداث من جهة‏,‏ والأديان والمعتقدات المختلفة من جهة
ثانية‏,‏ فإن ما جمع بين هذه الأحداث‏,‏ علي اختلافها‏,‏ أنها كانت تتسم
بالرؤية الدينية المحافظة‏,‏ وأن من قادوها كانوا من المحافظين الدينيين‏.‏

وما
أن حلت سنة‏1980‏ حتي وجدنا ريجان وتاتشر‏,‏ وقد تسلما حكم الولايات
المتحدة الأمريكية وانجلترا‏,‏ وإعلانهما تطبيق ما عرف بالسياسات
النيوليبرالية التي اتسمت بالمحافظة الشديدة في المجال الاقتصادي‏,‏
وتبلور تيار مهم في الحياة السياسية الغربية والمؤسسات الاقتصادية الدولية
يتبني هذه السياسات المحافظة‏,‏ وهم الذين عرفوا لاحقا بـ المحافظين
الجدد‏.‏

وعلي الرغم من أن قراءة الخطاب الديني المحافظ‏,‏ سواء في
الشرق أو الغرب‏,‏ في المجمل‏,‏ تضمن معارضة للكثير من منجزات الحداثة‏,‏
فإن القارئ المدقق سوف يلحظ أن هذه المعارضة لم توجه إلا للمسائل ذات
الطابع الأخلاقي فقط مثل‏:‏ مناهضة الإجهاض‏,‏ وأبحاث الخلايا الجزعية‏,‏
والهندسة الوراثية‏,‏ وملاحقة الإبداع الفني والأدبي‏...‏ إلخ‏,‏ وفي
مقابل التركيز الشديد علي هذه القضايا لم يلتفت التيار الديني المحافظ إلي
شراسة سياسات المحافظين الجدد وما يترتب عليها من آثار ضارة علي الشرائح
الوسطي والدنيا من الجسم الاجتماعي‏.‏

المفارقة أن القاعدة
الاجتماعية للتيار الديني المحافظ‏,‏ في الأغلب‏,‏ هي من الشرائح الوسطي
والدنيا‏,‏ أي أن هذا التيار لعب دورا حمائيا لكل ما يتهدد هذه الشرائح من
الناحية الأخلاقية‏,‏ وما يمس وحدة الأسرة وتربية أولادها‏,‏ لكنه لم يهتم
بحماية الشرائح نفسها التي يستمد منها شرعيته‏,‏ من تداعيات السياسات
النيوليبرالية‏.‏

من جانب آخر لم تسلم الاتجاهات الدينية ذات
الطابع النقدي‏,‏ التي حاولت من خلال اجتهادات منفتحة علي العصر أن تعقلن
الحياة الحضرية الحديثة‏,‏ وأن تقدم تفسيرات دينية للمستجدات الحياتية من
حصار المحافظين الدينيين لها‏.‏ فلقد حاولت هذه الاتجاهات التجديدية لفت
النظر إلي مساوئ السياسات النيوليبرالية‏,‏ ومواجهة الفقر والأفكار التي
تبرره باعتباره مسألة قدرية‏,‏ ومن ثم علي الفقراء الاستسلام له‏,‏
والقبول بالحلول الخيرية‏,‏ كما اجتهدت التيارات التجديدية أن تقدم
تفسيرات علمية لأسباب الفقر وكيفية الخروج منه‏,‏ وتمكين الناس انطلاقا من
أن الله قد منح الجميع قدرات‏,‏ وعليه يجب أن تتوافر أمامهم الفرص
المتساوية لإطلاق قدراتهم‏,‏ ولكن‏,‏ وعلي الرغم من ذلك‏,‏ تعرضت هذه
الاتجاهات للإقصاء من قبل المحافظين الدينيين‏.‏

وتساوت التيارات
الدينية التجديدية في الشرق والغرب في تعرضها لهذا الحصار من قبل
المحافظين‏,‏ حدث هذا في الولايات المتحدة الأمريكية عندما حوصر ما يعرف
بتيار المسيحية الجديدة‏(‏ ليس المقصود هنا بالجديدة تأسيس دين جديد‏,‏
وإنما هؤلاء الذين يقومون بعمليات تجديد ديني للفكر والخطاب لكي يكون
مواكبا للمستجدات في الحياة اليومية‏)‏ من قبل اليمين الديني الجديد‏,‏
كما حدث هذا عندما استبعدت الثورة الإسلامية الإيرانية ذات الطابع
الثيوقراطي‏(‏ حكم رجال الدين‏)‏ الاتجاهات الإسلامية المدنية‏,‏ والتي
تعاونت معها في بدايتها‏,‏ كذلك الاتجاهات التي كانت تحمل رؤي اجتماعية
نقدية علمية مثل الاتجاه الذي كان يمثله علي شريعتي‏.‏ أيضا حدث هذا مع
حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية من قبل قيادات الفاتيكان التي
التزمت المحافظة الشديدة‏...‏ إلخ‏.‏

وهكذا حدث توافق بين
المحافظين الدينيين والسياسيين‏,‏ توافق أقرب إلي التحالف‏,‏ استطاع من
خلاله المحافظون الجدد تمرير سياسات اقتصادية مريرة من دون مقاومة تذكر من
المتضررين الذين انشغلوا بالدفاع عن القضايا الأخلاقية‏,‏ علي أهميتها‏,‏
وتركوا كل ما يتهدد حياتهم اقتصاديا وسياسيا‏,‏ من جهة‏,‏ ومن جهة أخري
استبعاد الاتجاهات الدينية التجديدية التي كانت مؤهلة علي نقد وتصويب
السياسات الاقتصادية غير العادلة‏.‏ نعم ربما يكون التيار المحافظ الديني
قد لعب دورا مقاوما لكثير مما كان يتهدد المنظومة الثقافية الإنسانية
باختلافاتها‏,‏ إلا أنه لم يستطع أن يبذل الجهد نفسه في صد الآثار السلبية
لسياسات السوق‏,‏ بهذا المعني حدث التحالف بين المحافظين السياسيين
والدينيين‏,‏ إنه تحالف القرن‏,‏ التحالف الذي ترتبت عليه تغيرات جوهرية
في العلاقات الدولية من جهة‏,‏ وفي المسارات الداخلية للدول من جهة
أخري‏,‏ وكان مقدمة للكثير من الوقائع والصدامات الحاسمة والمثيرة‏.‏

لم
ينحصر هذا التحالف في سياق بعينه‏,‏ بل تعدد وجوده الكوني‏,‏ بيد أن تجليه
الأهم كان إبان فترتي حكم الرئيس بوش الابن‏(2001‏ ـ‏2008),‏ حيث عبر هذا
الحكم عن تحالف بين المحافظين الدينيين‏/‏ النيوكونز بقاعدتهم الاجتماعية
من الشرائح الوسطي والدنيا التي يسرت حكم المحافظين الجدد‏/‏ النيوكونز
الذين حكموا لمصلحة الأغنياء من خلال منحهم إعفاءات ضرائبية‏,‏ واتخاذ
إجراءات كانت مضادة للفقراء وللشرائح الوسطي‏.‏ لقد كانت الصفقة التي
أبرمها هذا التحالف مفادها‏:‏

تديين المجال العام في مقابل
السوق‏,‏ أو التبرير الديني لسياسات السوق‏(‏ بحسب ما جاء في روح
الديمقراطية الرأسمالية لمايكل نوفاك‏,‏ وكذلك نخبان في صحة الرأسمالية
لارفينج كريستول‏).‏

لقد استيقظ الأمريكيون علي واقع يقول إن هذه الصفقة لم تؤت ثمارها‏,‏ وأنها لم تعد صالحة للاستمرار‏,‏ فالخسارة كانت جسيمة‏.‏

وجاء
التغيير عبر القاعدة الانتخابية الطبقية والفئوية والجيلية الجديدة
باستحالة استمرار هذا التحالف‏(‏ وإن كان لا يعني اختفاء أطرافه‏),‏
والدفع بأوباما‏,‏ ليس كشخص‏,‏ ولكن كممثل للقاعدة الجديدة بعناصرها
لكتابة عقد اجتماعي أمريكي جديد‏,‏ ذلك بمحاولة استعادة التوازن للوطن بما
يضم من مواطنين‏,‏ وإعادة الاعتبار للتنوع بألوانه السياسية والدينية
والمذهبية والعرقية‏,‏ واستعادة أمريكا‏(‏ المختطفة‏)‏ من يد المحافظين‏:‏
الدينيين والسياسيين‏,‏ إلي كل تياراتها‏:‏ الليبرالية‏,‏ والمعتدلة‏,‏
والمحافظة‏,‏ فلا يحتكر المجتمع من قبل تحالف ضيق بين المحافظين فقط‏,‏
وهو ما عبر عنه أوباما‏(‏ تماما‏)‏ في خطاب الاحتفال بتنصيبه رئيسا
لأمريكا‏(‏ بتأكيد فكرة الوطنية الجامعة لحقها بتكوين مجموعة عمل خاصة
بالطبقة الوسطي‏,‏ وهو ما يمكن أن نتناوله لاحقا بالتفصيل‏).‏

وهو ما أظن أنه ستكون له انعكاساته الإيجابية علي العالم معلنا نهاية تحالف القرن وبدء مرحلة جديدة‏.‏