إبراهيم الكوني يتساءل‏:‏ من أنت أيها الملاك؟ بقلم : د‏.‏صلاح فضل

من طرف karem الإثنين فبراير 16, 2009 12:22 pm

إبراهيم الكوني يتساءل‏:‏ من أنت أيها الملاك؟
بقلم : د‏.‏صلاح فضل

إبراهيم
الكوني الأديب الليبي الفذ‏,‏ يمضي في استخراج ملحمته الصحراوية الكبري في
السرد العربي‏,‏ بعد أن أكمل ستين عاما من عمره‏,‏ أنجز خلالها سبعين
كتابا من إبداعه‏,‏ فضرب رقما قياسيا في الترجمات والدراسات حوله‏.‏ أصبح
زعيم نهج في الكتابة الروائية متفردا في الآداب العالمية‏.‏ آخر منشوراته
في كتاب‏'‏ دبي الثقافية‏'‏ رواية جديدة بعنوان شعري‏'‏ من أنت أيها
الملاك؟‏'‏ يقدم فيها صيغة مبتكرة ومكرورة لنشيد الصحراء التي قضي عمره في
توثيق روحها‏,‏ وتدبيج حكمتها ونحت تماثيل فنية باذخة لكائناتها وبشرها
معا‏.‏ ولكي نتنسم عبق هذا الوله بالصحراء يكفي أن نقرأ في المشهد الفاجع
الأخير من هذه الرواية وصفه لها بقوله‏:‏
‏
'‏علي تربة الحقول
الشاحبة المستباحة بأنياب الجرارات الوحشية‏,‏ نبتت تلك الأعشاب السخية
التي كان لها الفضل في إنقاذ آبائهم من المجاعات‏,‏ كالنخيل والزيتون
والرمان والتين‏,‏ فاجتثتها الأيدي الآثمة بلا رحمة‏,‏ لا لشيء إلا لأن
نزيف الأرض الشقية المسمي في لغة القوم نفطا أشبعهم من جوع وآمنهم من
خوف‏.‏ فظنوا أن هذا النزيف الذي حقق لهم الرخاء يمكن أن يستمر إلي
الأبد‏,‏ فما كان منهم إلا أن قطعوا دابر أنبل الأشجار ليستزرعوا مكانها
بسط الأعشاب الضارة‏,‏ لا ليفيدوا من بهاء مرآها‏,‏ ولكن ليتباهوا أمام
بعضهم بعضا بلونها الأخضر‏,‏ فما أشبه هؤلاء الأشقياء بأحمق الصحراء الذي
أبصر سرابا فخاله بحيرة ماء‏,‏ فاستصغر ماء قربته أمام سخاء بحيرة
الوهم‏,‏ فما كان منه إلا أن دلقه أرضا ليهلك بعدها ظمأ‏!'.‏

هذه
التمثيلات الشعرية تتحول في سرد الكوني إلي نسيج فكري يضمر فلسفته المشبعة
بالمخزون الأنثروبولوجي والحكمة الفطرية بقدر ما يشف عن رؤية كونية تفطن
لمفارقات المدينة وهي تغني لبراءة الصحراء في نشيد سردي موصول‏.‏

نموذج الأمثولة‏:‏
أحسب
أن هذا النوع من السرد يمكن أن يدخل في باب‏'‏ الأمثولة‏'‏ المجازية‏,‏
لأنه يعمد إلي تشييد بنية شبه أسطورية‏,‏ لاتبلغ درجة الرمز من الإبهام‏,‏
إذ يصرح بعناصرها الحيوية حينا‏,‏ ويكني عنها بغيرها حينا آخر‏,‏ موحيا
دائما بمعني فلسفي أعمق من دلالتها الحرفية‏,‏ وموغلا في أحشاء الظواهر
بطريقة غيبية‏.‏ يشير إلي قضايا فكرية تتقاطع مع مشكلات الوجود الواقعي
دون أن تتوازي معه في التمثيل الجمالي للحياة‏.‏ فهو يتحدث في هذه الرواية
الجديدة عن مشكلة‏'‏ التسمية‏'‏ وهي قضية فلسفية شهيرة‏,‏ عبر قصة رجل لم
يكتف بأن يحمل اسما غريبا ينتمي إلي لغة وتقاليد الصحراء‏,‏ وهو‏'‏ مسي‏'‏
بل أراد أن يسمي مولوده‏'‏ بوجرتين‏'‏ ليستفز كهنة دائرة السجل المدني‏,‏
يجعل مشكلة استنكار الاسم ورفض الاعتراف به تتفاقم عبر سنوات عديدة لتؤدي
إلي تعطيل التحاق الصبي بالمدرسة مما يعني ضياع هويته وحكما عليه
بالإعدام‏,‏ بل تنتهي إلي سحب هوية الأب ذاته وتعطيل حياته ونزع ممتلكاته
وهنا تنتصب المفارقة الحادة بين حياة الحرية في الصحراء وقيود
البيروقراطية في المدينة‏,‏ لكن الرواية تجسد غول هذه البيروقراطية بطريقة
أسطورية‏,‏

إذ ينتقل الرجل الشقي بميراث بيئته في دهاليز المبني‏/‏
المحفل الخاص بالسجل المدني وكهنته ليري الغرائب‏'‏ فقد اكتشف أنه لم يمكث
في هذه التجربة بضع ساعات كما تخيل‏,‏ بل غاب زمنا أطول بكثير‏,‏ كما
استولي عليه إحساس بالإسراء من المكان إلي جوف العالم‏..‏ فالبنيان يرجع
بتاريخه إلي عهود ما قبل التاريخ‏,‏ أي إلي تلك الأزمنة الموغلة في القدم
التي لم يكن فيها العقل البشري مؤهلا لتحصينات بنيان كهذا ليكون حكرا علي
توثيق الأسماء‏,‏ برغم أن روايات كثيرة تؤكد أن ألواحا حجرية وجدت مرارا
مطمورة في أقبية البنيان‏,‏ محفورة بأسماء عسيرة النطق برموز الأبجدية
الصحراوية‏,‏ تعود إلي تلك العصور التي تصفها ذاكرة الأجيال بعبارة‏'‏
الزمن الذي كانت فيه الحجارة مازالت رطبة‏'‏ وذلك للتعبير عن بصمة اليد
بأصابعها الخمسة‏,‏ أو صورة الرجل الذي يحتضن امرأته في وضع مقدس‏,‏ حسب
وصف قدماء الكهنة‏,‏ أو وضع مخجل حسب وصف المحدثين‏,‏ وهي لاتزال تتصدر
واجهة البنيان‏'.‏

الصخرة المقدسة‏:‏
لكن
الحفر في مشكلة التسمية التي تترك الأب وابنه بدون هوية أو وظيفة لاتلبث
أن تشف عن طبقة أعمق منها ترتبط بذاكرة الصحراء ومواثيقها العتيدة‏,‏
فالأب يضطر إلي عقد صفقة تذكرنا بما فعله‏'‏ فاوست‏'‏ من التحالف مع
الشيطان‏,‏ يذهب بمقتضاها بصحبة‏'‏ باي‏'‏ متنفذ ليعمل دليلا لقافلة تزعم
أنها تنقب عن مواقع النفط‏,‏ فيقع بذلك في مأزق أليم بين ضميره الصحراوي
وحاجته إلي الوعد بإنجاز الهوية لابنه واستنفاذ هويته‏,‏ يمر بتجربة أليمة
في انتهاك حرمة الصحراء‏,‏ يفضي لابنه بسر الأسلاف الذي عرف من أبيه‏'‏
أمام حصن مشيد من الحجر الصلد‏,‏ ينتصب ملتفتا حول الجلمود السري‏,‏ كأنه
سور أو تميمة شيدتها الطبيعة الصحراوية الحكيمة لتحمي روحها التي تسكن ذلك
الحجر الخرافي الذي تقول الأساطير إنه يخفي سر الصحراء‏.‏

كان
الحجر مسبوكا من صلد صقيل ناصع يقف مستديرا كقاعدة لحجر آخر يلتحم التحاما
ليكون قمة مثلثة الأضلاع مزبورة برموز الأبجدية القديمة‏,‏ بلسان اللغة
القديمة التي لم يعد في الصحراء من يستطيع فك طلسماتها منذ زمن بعيد‏,‏
برغم أن كهنة الأجيال التالية يؤكدون أن الرموز ماهي إلا وصية منسية
حفرتها يد الربة‏(‏ تانيت‏)‏ بمهماز النار‏,‏ ضاعت فحوي الوصية ولكن
مفعولها لم يضع بمرور الأيام‏,‏ لأن القبائل جربت أنها لم تهرع يوما إلي
هذا الحجر المقدس في طلب النجدة من خطر‏,‏ سواء كان وباء أم جفافا أم عدوا
إلا وأنجدها الحجر‏'.‏

عندما يعود الأب وابنه من هذه الرحلة
ينكر‏'‏ الباي‏'‏ تنفيذ وعده‏,‏ ويهجر الابن أباه‏,‏ وتقع الفاجعة عندما
يكتشف الأب أن سليله قد خان الأمانة ودل‏'‏ الباي‏'‏ علي موقع الحجر
الأثري‏,‏ وأن هذا بدوره قد اجتثه من الأرض وهرب به إلي خارج البلاد‏,‏
عندئذ لايبقي أمامه سوي الاحتكام للمدية الموروثة عن أبيه‏,‏ يغمدها في
عنق ابنه فداء للحجر المقدس كأنه أضحية العيد‏,‏ واضعا حدا مأساويا لفشل
السلاسل في الاحتفاظ بالهوية وأسرارها وذاكرة الصحراء وما تخبئه من كنوز
مادية ومعرفية‏,‏ تظل هي النبع الثر الذي ترتوي منه ملحمة الكوني
السردية‏.‏