جائزة الغيطاني بقلم : جابر عصفور

من طرف karem الإثنين فبراير 16, 2009 12:23 pm

جائزة الغيطاني
بقلم : جابر عصفور

كنت
في بيروت طوال الأيام القليلة الماضية‏,‏ أشترك في أحد المؤتمرات‏,‏ وفي
مساء اليوم الأول من وصولي هاتفني رضوان السيد‏,‏ وهو أعلم من عرفت في ربع
القرن الأخير بالتراث وكانت هذه المعرفة بداية صداقة حميمة وبعد الترحيب
التقليدي‏,‏ قال لي رضوان لا ترتبط بأحد في المساء‏,‏ سأصحبك بعد الجلسة
الأخيرة للمؤتمر‏,‏ اليوم‏,‏ ونذهب إلي العشاء مع بعض أحبابك في بيروت
وعندي لك مفاجأة مفرحة‏,‏ لن أخبرك بها إلا عندما أراك وجاء رضوان في
موعده‏,‏ وما إن رأيته وفرغنا من تبادل القبلات‏,‏ حتي بادرته بالسؤال ما
المفاجأة المفرحة؟ قال صديقك جمال الغيطاني‏,‏ حصل علي جائزة الشيخ زايد
لهذه الدورة في الفن الروائي‏,‏ وستعلن الجائزة غدا صباحا في مؤتمر صحفي
لهذا الغرض‏,‏ فأخذتني الفرحة إلي درجة تقبيل رضوان الذي أعرف أنه أحد
الأعضاء المؤثرين في مجلس أمناء الجائزة الذي سوف يتغير مجلسها كله هذا
العام فيما أظن وقلت لرضوان هذا خبر مفرح حقا‏,‏ فجمال جدير بكل تقدير‏,‏
خصوصا حين يكون المجال هو مجال الرواية تخصيصا والسرد تعميما‏.‏

وانطلقنا
بسيارة رضوان إلي المطعم الذي ينتظرنا فيه بقية الصحاب‏,‏ وأكثرهم من أهل
الأدب والثقافة مع بعض رجال السياسة ودار الحديث عن جائزة الغيطاني‏,‏
خصوصا بعد أن ذكر رضوان أنني كنت أقوم بتدريس كورس لطلاب الدراسات العليا
في الأدب بجامعة هارفارد‏,‏ بعنوان روايات القمع وأن هذا الكورس ترك
تأثيرا ملحوظا علي الطلاب والأساتذة علي السواء‏,‏ وأنني قمت بتدريس رواية
الزيني بركات ضمن هذا الكورس‏,‏ بوصفها رواية أساسية‏,‏ ذات أهمية خاصة في
الموضوع‏,‏ فأخذ بعض الحضور يسأل عن كيفية التدريس لطلاب لا يعرفون
العربية‏,‏ فقلت إنني اعتمدت علي الروايات التي لها ترجمة إنجليزية‏,‏
وإنني حصرت النصوص التي اعتمدت عليها في هذه الدائرة ولحسن الحظ‏,‏ كان
لرواية الزيني بركات ترجمة بديعة‏,‏ قام بها فاروق عبد القادر أستاذ الأدب
العربي في جامعة شيكاغو وتولي تقديم الترجمة بمقدمة بالغة الدلالة إدوارد
سعيد الذي كان يحمل تقديرا خاصا لإبداع الغيطاني في الرواية وهو تقدير في
محله فالوزن النوعي للغيطاني في الرواية لا يضعه في الصف الأول من
الروائيين العرب فحسب‏,‏

بل بين كتاب الصف الأول من أدباء العالم
وكان لابد من سؤالي عن هذا التقدير الخاص وكان الجواب جاهزا‏,‏ فالأمر لا
علاقة له بمحبتي أو صداقتي أو حتي عداوتي الشخصية لهذا الفرد أو ذاك من
الكتاب‏,‏ وإنما بالقيمة الإبداعية والعلامة الأولي للقيمة‏,‏ عندي‏,‏ هي
القدرة علي تغيير المسار والإضافة الكيفية لا الكمية إلي الأساتذة الكبار
وقد تتلمذ جمال الغيطاني علي نجيب محفوظ الذي أنزله منزلة شيخه‏,‏ وجعل من
نفسه مريدا بالغ الإخلاص للشيخ الذي تحول إلي قطب ومع ذلك عندما أمسك
بالقلم ليبدع وعرفت يده السيطرة علي هذا القلم‏,‏ اختار طريقا فريدا‏,‏
كان أول الداخلين والماضين بجسارة فيه‏,‏ وهو طريق الكتابة التي تتخذ من
أحداث التراث المصري ولغته‏,‏ خصوصا في العصر المملوكي الذي انتهي بالغزو
العثماني‏,‏ أقنعة ومرايا لرؤية أحداث الحاضر الذي كان لابد أن ينتهي
بهزيمة‏1967‏ التي رآها موازية للغزو العثماني لمصر الذي أنهي زمنا كاملا
من محاولات الصعود التي كانت تنطوي علي جرثومة فشلها‏,‏

وافتتح
زمنا مضادا من الهبوط الذي لم تتوقف علاماته بعد وكان غوص جمال في محلية
تاريخه الوطني‏,‏ واستعارة لغة أمثال المقريزي وابن تغري بردي‏,‏ وغيرهما
كثر‏,‏ تقنية إبداعية‏,‏ تؤدي دورا رمزيا في معالجة الماضي علي أنه
حاضر‏,‏ والحاضر علي أنه ماض‏,‏ وذلك بحيث تنوس الكتابة بين الطرفين
اللذين يبدوان أقرب إلي الذات والموضوع‏,‏ لكن في تحولاتهما الدائمة التي
تضع كلا منهما مكان الآخر‏,‏ فنقرأ أحداث الحاضر علي أنه ماض‏,‏ والماضي
علي أنه حاضر‏,‏ في لغة تحقق نوعا من التغريب الذي يكبت حضور الانفعال
الذاتي للكاتب‏,‏ ويباعد بين القارئ ومايقرأ بما يتيح له التأمل والقدرة
النقدية علي طرح الأسئلة التي لا تكف عن التولد‏,‏ كي يعرف الكاتب والقارئ
معا الإجابة عن الأسئلة الحائرة كيف؟ ولم؟ ولماذا؟ ومن أين؟ وإلي أين؟‏.‏

وكانت
البداية قصة قصيرة بديعة بعنوان أذكره علي سبيل التقريب هو نهاية الوري
فيما جري في المقشرة وهي عن آمر سجن يكتشف نقص عدد السجناء‏,‏ فيخرج إلي
الميدان المجاور للسجن‏,‏ ويقبض عشوائيا علي من يوقعهم القدر في طريقه كي
يكمل العدد وتنضح القصة المكثفة بالسخرية الماكرة من أسباب الاعتقال التي
تغدو عشوائية وغبية‏,‏ خلال عهود كل سلطة قمعية استبدادية وتقود رمزية
المقشرة إلي الزيني بركات لنصل إلي الدور التدميري الذي يمكن أن تقوم به
كل من الأجهزة القمعية والأجهزة الإيديولوجية للدولة التسلطية وهو الدور
الذي يقود إلي كارثة لا تبقي علي شيء‏,‏ سواء في أعلي مستوي أو أدني درجة
ومن الزيني بركات إلي وقائع حارة الزعفراني حيث الخوف من الواحد الأحد
المتسلط الذي يثير حضوره الرعب الذي يصيب كل شيء بالشلل الذي يتجلي رمزيا
في ضياع القدرة الجنسية‏,‏ في نوع من رمزية الإخصاء السياسي الاجتماعي
الإبداعي ويعرف الغيطاني‏,‏ في هذه الأثناء‏,‏ كنز التصوف الذي ينهل
منه‏,‏ ولا يزال‏,‏ فتغدو لغة التصوف وأحواله وتحولات شطحاته‏,‏ وبوارقه
ولوامعه‏,‏

أدوات بناء في سرد تتحول فيه علاقات الزمان والمكان
والكائنات‏,‏ خصوصا بعد إلغاء حواجز المنطق‏,‏ كي يغدو الشعور حرا كالخيال
الصوفي الذي لا يوقفه جدار من الجدران التي تحجز وعينا في داخلها وكانت
النتيجة رواية التجليات التي نالت ترجمتها الفرنسية ما تستحقه الرواية من
تقدير أحيانا‏,‏ كنت أخاف علي الغيطاني أن تشده تفاصيل الصحافة ومشكلاتها
العملية‏,‏ وتبعده عن درجة العشق المتصوف للكتابة‏,‏ وكان خوفي يتزايد مع
علامات سلبية في الكتابة أحيانا‏,‏ لكن المبدع الأصيل داخله كان‏,‏
ولايزال‏,‏ ينتصر دائما‏,‏ فتتعدد الأعمال الأصيلة‏,‏ وتتزايد رغبة
التجريب الخلاق الذي أنتج عملا لم ينل حقه من الاهتمام‏,‏ هو المؤسسة التي
أري في رمزيتها نموذجا ما بعد حداثي بكل معني الكلمة وقس علي ذلك غيره من
الأعمال التي لم تتوقف إلي اليوم‏,‏ مؤكدة حضورا إبداعيا بالغ الثراء
والتنوع‏,‏ يظل مدعاة لفخرنا بكتابة جمال الغيطاني التي تدعونا إلي تحية
الجائزة التي شرفت بتقدير إبداعه الأصيل‏.‏