حكاية شعب في سحر مافات بقلم : فؤاد قنديل

من طرف lzeem الإثنين فبراير 16, 2009 12:26 pm

حكاية شعب في سحر مافات
بقلم : فؤاد قنديل

عودنا
التاريخ أن ينسي أو يسقط من حسابه متعمدا كثيرا من المحطات العادية في
مسيرة الحياة أو مسار العلوم والفنون والآداب وشتي المجالات‏,‏ تلك
المحطات أو المنجزات التي تتماثل مع غيرها فيما يسمي نسق القطيع‏,‏ حيث
تصطف دواوين من الشعر وتتكدس أفلام سينمائية لا تأثير لها وتتكوم كلمات
وخطب‏,‏ وتملأ الفضاء أغنيات ومهرجانات تمر برغم الضجيج من احدي الاذن
عابرة إلي الاذن الاخري‏,‏ ومثل المواقف العنترية التي تبدو في الظاهر
كأنها نضال وما هي كذلك لأن ما ينفع الناس فقط هو ما يمكث في الارض ويعتد
به التاريخ‏,‏ مثلما يعتد بالعمل الفني الذي يلتقط فكرة عبقرية أو يمسك
بموقف انساني فذ‏,‏ فيحوله إلي بللورة مشعة‏.‏

في هذا الاطار يأتي
فيلم سحر ما فات لعاشق السينما المفكر والفنان الدكتور مدكور ثابت الذي
تجمعني واياه صداقة تتجاوز الاربعين عاما منذ عين معيدا في معهد السينما
عام‏1966‏ وكنت من قبل ذلك بسنوات أعمل في استديو مصر‏,‏ وليس علي شرف هذه
الصداقة تجري هذه السطور‏.‏

استدرجنا مدكور إلي رحلة سياسية
وثقافية وفنية وانسانية مبهجة عبر الفيلم الذي بدأه بأشرطة سينمائية عن
بدايات هذه الفن الجميل ولقطاته الباهرة لأحوال مصر عام‏1895‏ بكاميرا
الاخوان لوميير‏,‏ حتي ليستقر في روعنا أن الفيلم عن سحر السينما‏,‏
والطرافة النابعة من مشاهدة مصر القرن التاسع عشر حيث الحمير والبغال تجوس
خلال أجمل العمائر التي بناها اسماعيل وسط القاهرة ليجعلها قطعة من
أوروبا‏.‏

هاهي القطارات القديمة تنفث دخانها وتمرق علي سككها بقوة
ترتعد لها فرائص الاهالي المندهشة‏,‏ وكوبري قصر النيل أول كباري القاهرة
يزهو بسباعه الاربعة البرونزية‏,‏ وفيضان النيل يغرق البلاد والعباد وبيوت
الطين‏.‏ وفي غضون ذلك الماضي الملتبس القادر علي ادهاشنا ينقض المخرج
والمؤلف قائلا ان تيودور هيرتزل زار مصر وقرر بناء أول مستوطنة صهيونية في
كوم امبو كبداية لتأسيس وطن قومي لليهود علي ضفاف النيل‏,‏ ونري بالفعل
المستوطنة‏,‏ ثم تنتقل اللقطات السينمائية إلي محاكمات دنشواي وشنق
الأبرياء‏,‏ ويعود إلي عالمه الاثير ليحدثنا عن جهود محمد بيومي في انتاج
واخراج أول الافلام المصرية الذي نطالع عن أعماله لقطات لحركة الناس في
مصر‏,‏ وهي صورة لحياة البسطاء الذين لايعرفون الكثير من السياسة ولا
أنباء الحرب العالمية الاولي‏,‏ لكننا نفاجأ بهبة الشعب في عام‏1919‏ من
أجل استعادة زغلول من منفاه‏,‏ وتخضع أقوي الامبراطوريات في ذلك الوقت
لرغبة الشعب وثورته العارمة‏.‏

تحكي لنا اللقطات السينمائية عن
الملك فؤاد الذي لم يحكم غير أربع سنوات‏(1932-1936)‏ وتولي من بعده الفتي
الغرير فاروق حكم البلاد ويرحب به الشعب بعد وصوله من انجلترا حيث كان
يدرس‏.‏ وتزودنا السينما بلقطات لعمال في مصانع غزل ونسج القطن ومصنع
للطرابيش التي كانت تمثل الكثير للمواطن البسيط‏,‏ ويصدمنا مدكور بمشاهد
الصهاينة وهم يستعدون بالتدريبات علي الاسلحة التي أمدتها بها انجلترا
ولقطات للإنجليز وهو يسلمون أرض فلسطين التي كانت تحت انتدابهم لليهود‏,‏
وتبدأ المعارك التي عمل فيها الجيش المصري يدا بيد مع المتطوعين من
المدنيين الذين عشقوا فلسطين ولايزالون‏.‏

هاهو الملك في العديد من
اللقطات يزور الجبهة في فلسطين ويتابع شئون الجيش وهو في كامل زينته‏,‏
وتلتقط عيوننا وجه عبدالناصر الذي بدا ساخطا إبان تكريم أبطال الفالوجة‏,‏
ونري الشعب الطيب وهو يحيي الملك بحماسة كما نراه بنفس الحماسة يحيي قائد
الثورة المعلن محمد نجبيب‏,‏ ويعود المخرج لولعه بالسينما فيحدثنا عن
الافلام المصرية الناطقة التي تألقت وتدفقت لترصد الحراك الاجتماعي
والصناعي والزراعي‏,‏ وقد أمكن الاستعانة بها في تأمل الحياة المصرية بشتي
تجلياتها في الاربعينيات والخمسينيات‏,‏ ونري الزعيم الجديد وهو يتصدر
المشهد ماضيا يبني ويعمر ويحرض علي الاخذ بأسباب التقدم‏,‏ فيؤمم القناة
وسرعان ما تنقض الدول الثلاث علي مصر وتطلع علينا ملايين الشعب السوري
تحيي جمال‏,‏ وتبدأ رحلة بناء السد وتكوين الوحدة ودعم حركات التحرر‏.‏

لكن
طيور الظلام والدم والكآبة تحط علينا مع اجتياح اسرائيل عام‏1967‏ في غفلة
من الزمن ومن الوعي لتعقبها ملاحم حرب الاستنزاف ونشهد من جديد صور
عبدالناصر الذي كان نجما متألقا وقد شاخ وذبل وتكشف نظرات عينيه التي تحدق
فيهما الكاميرات عما يمور بأعماقه من الاسي علي الرحلة والتجربة والخيانة
والاعداء الذين يقبعون علي الجانب الآخر تصول الكاميرات وتجول حول الموكب
التاريخي الحزين في وداع حبيب الملايين‏,‏ ويقول مدكور لقد أصبحت السينما
في مصر ملونة مع حرب اكتوبر وانتهي زمن الابيض والاسود‏(‏ عبارة تعني
الكثير من الدلالات‏)..‏ انها السينما التي تحاول أن تصور لنا كم كان
الجنود المصريون البواسل عند حسن ظن الغالية مصر في عهد الرئيس السادات‏,‏
وقد استعادوا الارض والكرامة ليخرج من بينهم قائد القوات الجوية ليصبح
الرئيس الرابع في العهد الجمهوري الذي كما تقول السينما مضي يشق طرقا عدة
في التنمية والعلم والسلام‏,‏ لكن الاعداء الذين ابتعدوا قليلا لايزال
خطرهم جاثما‏,‏ ولكن الامل قائم كي تنفتح الآفاق لمستقبل أفضل‏.‏

انه
الفن الرفيع الذي يقدم المتعة الفكرية مع المتعة الجمالية‏,‏ وهو الفن
الذي يقدم السياسة مع الغناء والحرب مع الحدائق‏,‏ ويتأمل أشجان النيل كما
يطل في عيون الصابرين‏,‏ وهو الفن الذي يجعلك وأنت تشاهد فيلما توثيقيا
علي مدي ساعتين وربع الساعة لاتشعر بلحظة ملل‏,‏ وهو الفن الذي يدفعك الي
أن تحاول مشاهدة عمل لأكثر من مرة‏,‏ وفي كل مرة يكشف لك عن أسرار جديدة
وأعماق ساحرة‏.‏

في هذا الفيلم وعبر استعراض سحر ما فات ومن خلال
المفردات التي أعاد المخرج ترتيبها بلغة السينما نتعرف علي أحلام البسطاء
وتضحيات الشرفاء والمواقف المضيئة والانجازات الباهرة كما نتعرف علي
الصدوع التي أصابت البناء في الصميم‏,‏ لكن الارادة ـ وهي مجد البشر
الحقيقي لا تزال هناك‏..‏ انها حكاية شعب له بلاغته رغم ما أصابه‏,‏ وجمال
فيلم رغم وثائقيته‏.‏