البيــت القـــديم بقلم : إبراهيم أصلان

من طرف حبيبة الكل الثلاثاء فبراير 17, 2009 11:53 am

البيــت القـــديم
بقلم : إبراهيم أصلان

عندما
عاد إلي سكنه القديم‏,‏ لاحظ أن المبني الذي شهد سنوات شبابه صار أكثر
ضيقا وعتمة‏,‏ والدنيا ازدحمت والذين تركهم صبيانا صاروا شبابا يقفون علي
النواصي يدخنون البانجو ويتعاطون البرشام‏.‏

في الصباح‏,‏ غسل كوبه
الألمونيا في ماء الحنفية وراح يتأمله‏,‏ كان كوبا كبيرا له رقبة ضيقة
وشفته العليا مقلوبة إلي الخارج‏,‏ وكان ناعما وفي جنبه خبطة وحيدة‏,‏
أرسل ولدا من السكان ومعه خمسة جنيهات‏:‏

عارف منصور بتاع الفول؟‏.‏
أنا عارفه‏.‏ واقف بالعربية في الوسعاية‏,‏ عند أبوكمونة‏.‏
خليه يملاها فول‏,‏ وهات الباقي‏.‏
والولد تناول الكوب والجنيهات الخمسة وأسرع بالنزول‏.‏

لقد
قضي السهرة وحيدا يفتح الدولاب والأدراج ويقلب في الثياب القديمة‏,‏
بنطلونات وبلوفرات وهدوم قديمة له وللمرحومة والولدين منذ كانا طفلين‏.‏
وفتح سوستة الحقيبة الجلدية وأفرغها علي السرير‏,‏ كمية كبيرة لصورهم في
مراحل مختلفة‏,‏ إحسان بوجهها الشاب الجميل تحدق في الكاميرا وهي بزينتها
الكاملة‏,‏ وفي صورة أخري يحتضنان بعضهما‏,‏ هو بقميص وبنطلون وهي بجلباب
منزلي خفيف‏,‏ وفي أخري تجلس علي السجادة بشعرها الطويل السايب علي كتفيها
وأمامها الولد سليمان طوله شبران وعار من ثيابه وهي ترفع ذراعها لتلبسه
شيئا بينما انتفخت بطنها قليلا بالولد أشرف الذي كانت حاملة فيه‏,‏ وصور
لشاطئ العريش برماله الممتدة البيضاء‏,‏ هو يجلس في الماء‏,‏ والولدان علي
كتفيه‏,‏ والحاجة إحسان ببنطلونها الأسود الضيق وفانلتها الحمراء وهي تسبح
أو تلعب وتقفز عاليا لتلتقط الكرة الكبيرة الملونة‏,‏ لقد ترك الصور
مبعثرة علي الفراش واتجه إلي الثلاجة التي كانت زوجة ابنه قد غيرت
محتوياتها‏.‏ شرب وأغلقها‏.‏ كان بابها الخارجي وجوانبها مزينة بعناقيد
العنب الأخضر الشفاف والأحمر‏,‏ معلقة في مشاجب صغيرة من السلك المثبت في
شرائح من البلاستيك المستدير الملصق بضغط الهواء‏,‏ وكانت كل واحدة من
حبات الفراولة المشقوقة وثمار المانجو الصغيرة واليوسفي وسلال الفاكهة
الصغيرة مفرغة من الداخل وبها أصابع من البلاستيك في قمتها قطع من
المغناطيس الذي يلتصق بباب الثلاجة أو أحد جدرانها‏,‏ أما قرون الفلفل
الأحمر بأقماعها ذات الورق الأخضر فلقد كانت ملتصقة وهي كاملة بواسطة
شرائح المغناطيس المثبتة في جوانبها‏,‏ وتذكر كيف كان يتصرف عندما يفتح
الثلاجة ويقع شئ من هذه الأشياء‏,‏ لقد كان ينظر إلي الثمرة الملقاة علي
البلاط ويدفعها في ضيق بمقدمة حذائه ويخفيها تحت الثلاجة أو النملية‏,‏ ثم
شعر بالأسي أكثر عندما تذكر أيضا كيف كان يجلس في الصالة ويلتفت آخر الليل
ويراها من باب المطبخ الموارب واقفة تعيد تزيين ثلاجتها بقطع بدلا من التي
فقدت‏,‏ كانت تفعل ذلك بعناية وصبر‏,‏ وانتبه للخبط علي باب الشقة‏,‏
وعندما فتح وجد الولد الذي أرسله يقف وخلفه منصور بائع الفول يصيح‏:‏ يا
ألف أهلا وسهلا‏.‏ أنا عرفت الكوباية أول ما شفتها وقلت لازم آجي بنفسي
وأعرف مين اللي أبعتها‏.‏ الحمد لله انك بخير ياأستاذ‏.‏

كان يقف
بقامته الممتلئة وطاقيته المخرمة والمريلة المبقعة تغطي بطنه الكبير‏,‏
وكان الكوب الألمونيا في يده اليمني‏,‏ وفي اليسري بضعة أرغفة وحزمة من
البصل الأخضر‏:‏ نورت البيت والحتة كلها يا أستاذ‏,‏ إحنا سمعنا والله
باللي حصل وزعلنا قوي‏,‏ ربنا يديك طولة العمر‏.‏

ثم مد يديه وضحك وقال‏:‏ أنما عرفت الكوباية أول ما شفتها‏.‏ عشر سنين دلوقت‏.‏

والاستاذ
خليل تناول الكوب والعيش والبصل الأخضر وهو يفكر بأن المدة أقل من عشر
سنوات بكثير‏,‏ ثم عزم عليه أن يدخل يفطر معه ومنصور اعتذر لأن العربة
وحدها‏,‏ وأعاد له جنيهاته الخمسة وأقسم بالطلاق أنه لن يتقاضي هذه المرة
شيئا وأسرع يقبض علي الدرابزين وينزل السلم وهو يلم جلبابه في يده
الأخري‏..‏ والأستاذ خليل أعطي الولد الصغير جنيها‏,‏ وأغلق الباب‏.‏