غناء النجوم بقلم‏:‏ د‏.‏ أحمد إبراهيم الفقيه

من طرف مشمش الأربعاء فبراير 18, 2009 10:48 am

غناء النجوم
بقلم‏:‏ د‏.‏ أحمد إبراهيم الفقيه

تجربة
مثيرة أن تحضر عملا مسرحيا من تأليفك كتبته‏,‏ كما كان الحال معي‏,‏
باللغة العربية‏,‏ ينقل أفكارا مستوحاة من قضايا عربية‏,‏ مصاغا في حوار
موضوع علي ألسنة شخصيات من البيئة‏,‏ من أجل أن أناقش من خلاله مشكلة من
المشاكل التي تعاني منها بلدان المنطقة العربية التي دار فوق أرضها رحي
الحرب العالمية الثانية وتركت هذه الحرب إرثا ثقيلا مازال يعطل التنمية
ويصادر الارض الزراعية ويلتهم الضحايا من البشر كما حدث في مصر وفي
ليبيا‏,‏ وهذا الإرث هو ما اصطلحنا علي تسميته حدائق الشيطان وهي الالغام
التي تغطي جزءا كبيرا من أرض الصحراء الغربية في البلدين‏,‏ ومازالت لم
تجد حلا نهائيا يضمن ايقاف مجازرها وأضرارها بالنسبة للشعبين‏.‏

الإثارة
في التجربة ليس ان تري العمل معروضا في بيئته ومن قبل فنانين لهم ذات
الهوية والانتماء‏,‏ والحوار يتردد علي ألسنة الشخصيات بلغته‏,‏ وبين
جمهور من أهل البلاد‏,‏ فهذا ما حدث مع هذه المسرحية أكثر من مرة عندما
شاهدتها في عروض في طرابلس‏,‏ أو في بلاد عربية أخري فقد تم تقديمها في
الاردن‏,‏ وفي عروض لم أشاهدها علي أيدي فرق فلسطينية في الارض المحتلة‏,‏
ولكن مصدر الاثارة هذه المرة هو أنني كنت أشاهد المسرحية باللغة
الانجليزية‏,‏ تؤدي بممثلين أمريكيين‏,‏ بعضهم صاحب لهجة شديدة في لونها
المحلي‏,‏ ومن خلال اخراج لسيدة امريكية صاحبة مدرسة في الاخراج يعتبرونها
كغيرها من المخرجين مؤلفا ثانيا للعرض‏,‏ لان لها رؤية ووجهة نظر تقتضي من
الكاتب التقدير والاحترام‏,‏ فوق مسرح صغير من مسارح برودواي شارع المسارح
والفنون في نيويورك‏,‏ وأري بطبيعة الحال عرضا يختلف عما شاهدته في العروض
العربية‏,‏ وربما يختلف عن الرؤي التي كتبته بها‏,‏ ثم التقي في حوار مع
جمهور العرض‏,‏

وهو جمهور نخبوي من المجتمع الادبي الفني الذي
تستهدفه عروض هذا المهرجان‏,‏ وقد تعامل معها باعتبارها مسرحية أمريكية‏,‏
تنقل أحداثا أمريكية‏,‏ وتصور شخصيات أمريكية‏,‏ وتتعامل مع قضايا حياتية
يجدون فيها صورة من حياتهم‏,‏ وجزءا من همومهم ومشاكلهم‏,‏ حتي حقل
الالغام الذي تتمحور حوله المسرحية باعتباره هجوا للارث الاستعماري في
مجال القتل والاهلاك‏,‏ يصبح في هذا العرض تعبيرا عن حالة وجودية‏,‏ تتصل
بمجيئنا لهذه الدنيا‏,‏ حيث كل انسان وجد نفسه ومن حيث لا يدري ولا يحتسب
مقذوفا به في هذه الحياة‏,‏ وعليه ان يتعامل مع ما تمتليء به من شراك
ويبحث عن طريق للخلاص منها كما هو حال أبطال مسرحية غناء النجوم في
تعاملهم مع ورطة الدخول غافلين الي حقل الالغام‏,‏ وتحدث حالة من التماهي
والتوحد بين جمهور العرض الامريكي وبين النص العربي الي الحد الذي جعل
مديرة الندوة التي أعقبت العرض تظن وكأن المسرحية كتبت خصيصا لهذا المسرح
ولهذا الجمهور‏.‏

حدث هذا في الاسبوع الماضي وأنا ألبي دعوة
لمهرجان سنوي مسرحي تقيمه كلية الفنون المسرحية التابعة لجامعة نيويورك
بهدف تقديم نصوص لادباء من مختلف أقطار العالم‏,‏ لمجتمع المسرح في
برودواي لكي تسهم في تغذيته بمدد دائم من النصوص كتأكيد وتعزيز لرسالتها
الاكاديمية التوجيهية‏,‏ حيث ينشغل أهل الفن بمجابهة ظروف الانتاج
والتعامل مع معطيات الواقع وينسون المنبع الاساسي لاي ازدهار للحركة
المسرحية‏,‏ وهو النص‏,‏ فتقترح عليهم نصوصا تختارها من ابداعات الادباء
شرقا وغربا‏.‏

حدث معي اثناء وجودي في نيويورك ما حدث قبلي بأسابيع
قليلة لاثنين من أهل الادب هما أدونيس وجمال الغيطاني عندما دعاهما النادي
العربي في الامم المتحدة للقاء وحوار مع اعضاء النادي بمقره داخل علبة
الكبريت الزجاجية‏,‏ فذهبت لأتحدث أمامهم عن تجربتي الادبية‏,‏ وأتلقي
اسئلتهم وكان إحدها مقتبسا مما قاله الزميل الغيطاني في اطار الجهود
المبذولة لتأصيل السرد الروائي عربيا ومنحه هوية عربية‏,‏ وعما اذا كنت
منشغلا ومهموما بمثل هذه القضية‏,‏ فأجبت ردا علي السؤال بأنني لست في
الحقيقة كثير الانشغال بهذا الموضوع‏,‏ وأشرت الي الحوار الذي دار حول
غناء النجوم عندما رأي فيها الحاضرون أثناء العرض مثالا لقدرة الادب علي
توحيد البشر‏,‏ ولعل فنون السرد أكثر قدرة وأبلغ توصيلا لهذه الرسالة‏,‏
فالمسرح معروضا يقتصر في الغالب علي جمهور العرض في حيز زماني ومكاني
محدد‏,‏ بينما الرواية منذ مراحلها الاسطورية والملحمية‏,‏ وقبل عصر
التدوين وظهور الوراقين ثم المطبعة‏,‏ كان أدبا شفهيا ينتقل عبر الرواية
الي مختلف أركان الارض‏,‏

ولهذا فلم يكن غريبا ان نري هذا التشابه
بل التطابق في خرافات معروفة لدي شعوب في الشرق والغرب‏,‏ ولذلك فإنه رغم
التباعد‏,‏ وغزارة الفوارق عرقية ودينية وأخري تتصل باللون والشكل
والايديولوجيا والجغرافيا والذاكرة التاريخية والعادات والتقاليد‏,‏ يبقي
الادب عنصر توحيد‏,‏ يتعامل مع القواسم المشتركة في حياة الناس وثوابت
القلب الانساني‏,‏ وليس مع المتغيرات والفروق وأوجه الاختلاف‏,‏ باعتبارهم
بشرا ينفعلون ويحسون ويتألمون ويفرحون ويحزنون ويضحكون ويبكون بطريقة
واحدة‏,‏ وهذه الاحاسيس هي موضوع الادب ومادته‏,‏ وقصة جيدة يكتبها كاتب
في اليابان او الهند او امريكا او مصر‏,‏ هي في نهاية المطاف زاد ابداعي
للناس جميعا‏,‏ يتفاعل معه الناس في كل مكان يصل اليهم ويرون فيه
أنفسهم‏,‏ لانه يملك طبيعة تجعله عابرا للقارات والعصور‏,‏ محلقا فوق
محدودية الزمان والمكان‏,‏ يلتقي حول موائده البشر جميعا‏,‏ ويتغذون من
صحافه‏,‏ كموائد المعجزات القادمة من السماء التي لا يسأل أحد الي أي مطبخ
تنتمي‏.‏

وأهلا بعد ذلك بالخصوصيات اذا كان الهدف ان تثري الادب‏,‏
وتزيده خصوبة ودسامة وتكون اضافة له‏,‏ لان هذا بالتأكيد ماعناه الزميل
الغيطاني وغيره من زملاء ينشغلون بسؤال الهوية‏,‏ بينما أجد أنا في منجزات
الرواية التي تحققت علي مستوي العالم ما أعتبره منجزا انسانيا احتفي به‏,‏
وأستفيد منه قدر ما أستطيع دون أن يعنيني كثيرا من أي وجهة جاء‏,‏ لانني
أنظر الي أي انجاز في هذه الحالة كما نظر هارون الرشيد للغيمة البعيدة‏,‏
طالبا منها ان تمطر حيث تشاء لان اينما هطلت فإن خراجها له‏,‏ أعني هنا
بأن خراجها للقاريء صاحب المصلحة في أي ابداع‏.‏