وزارة الثقافة بين الكم والكيف بقلم‏:‏ سامح كريم

من طرف مشمش الأربعاء فبراير 18, 2009 10:51 am

وزارة الثقافة بين الكم والكيف
بقلم‏:‏ سامح كريم

يتواصل
الحديث حول مرور خمسين عاما علي إنشاء أول وزارة ثقافة في العالم العربي
هي وزارة الثقافة المصرية‏,‏ لنتوقف قليلا عند نظريتي الكم والكيف اللتين
تساءل بعض القراء عن مضمونهما ونتائجهما بعد نشر المقال السابق‏,‏ وفي
الإجابة نسترشد بتجربة الدكتور ثروت عكاشة‏,‏ حيث يمكن القول ابتداء إن
نظرية الكيف حولت السياسة الثقافية إلي مجالات أخري كان من نتائجها هذا
البناء الشامخ المتمثل في منظومة المؤسسات الثقافية‏..‏ ولعلنا نشير في
البداية إلي الحوار الذي دار بين الزعيم الراحل عبدالناصر والدكتور ثروت
عكاشة المنشور بكتابه مذكراتي في السياسة والثقافة‏,‏ والذي أفضي فيه
الزعيم الراحل للدكتور ثروت بأنه ضائق لما دخل الحقل الثقافي من جدب‏,‏
كاشفا بأنه عدل عن ترجيح كفة الكم علي كفه الكيف وأنه ـ أي عبدالناصر ـ
بات يري إجراء تغيير عاجل في الثقافة لأن تطبيق سياسة الكم قد أسفر عن
نتائج ضارة بالثقافة وبأموال الدولة‏..‏

غير أنه سرعان ما تدارك
ماسبق به لسانه وإذا هو يقول‏:‏ لست أعني بذلك تضييق الرقعة الثقافية علي
الكم ولا النظر الي الكيف وحده‏,‏ بل أعني أن تكون ثمة موازنة بينهما حتي
لايطغي أحدهما علي الاخر‏..‏ وللزعيم عبدالناصر كل الحق في مطلب
التغيير‏,‏ بعد مرور اثني عشر عاما علي قيام الثورة‏,‏ فقد أصبح العدول عن
سياسة ضخ الكم في الثقافة لامعدل عنه بل أصبح الاتجاه إلي الكيف في
الثقافة مطلبا ضروريا‏.‏

وهذا الكيف الثقافي هو الذي اتخذه الدكتور
ثروت اسلوبا في إدارته للثقافة المصرية‏,‏ والتي أصبحت تلائم المرحلة
وقتئذ‏,‏ تلك التي امتدت من بداية ستينيات القرن الماضي إلي بداية
سبعينياته حيث أصبح مطلوبا التزام وزارة الثقافة بأن توفر للناس الغذاء
الوجداني السليم‏,‏ وأن تنتقي بمنتهي العناية والدقة ماتقدمه لهم حتي تكسب
ثقتهم ليؤمنوا برسالتها الجديدة‏,‏ وهذا يعني بالتالي التزامها بتقديم
مختارات ثقافية تعتمد علي الكيف اكثر من اعتمادها علي الكم‏,‏ فقد وضح أنه
حتي التأرجح في السياسة الثقافية للدولة بين نزعتي الكم والكيف أمر غير
مطلوب علي وجه صحيح‏,‏ فقد يتسبب في أن يأتي الإنتاج الغزير المتوالي
فقيرا لانفع فيه‏..‏ ولهذا أصبح الإلتزام بالكيف الثقافي أمرا ضروريا‏.‏
فهو يجلو للناس الفرق بين ماهو جميل وماهو قبيح‏,‏ ماهو جيد وماهو
مبتذل‏,‏ كما أنه يحدد الاختيار بين الجوهر الحقيقي‏,‏ والمظهر الزائف‏..‏
ولقد أثبتت تجربة تغليب سياسة الكم علي سياسة الكيف بأن إصدار كتاب كل ست
ساعات أدي إلي أن تختلط سياسات الكتاب وأهدافه ومستوياته بحيث يعجز عن أن
يجذب القاريء الي حلقات المثقفين مشاركا ومناقشا‏,‏ وأدي بالكتاب إلي
البوار والكساد‏,‏ وباموال الدولة إلي الإهدار والخسارة‏.‏

وماينطبق
علي الكتاب ينطبق علي السينما والمسرح وغيرهما‏.‏ كما كشفت هذه التجربة عن
أن الإنتاج الغزير لايصل إلي الجماهير العريضة في الريف‏,‏ إنما يتركز في
العاصمة وحدها‏..‏ وهكذا أصبح من الضروري أن تتبع الثقافة في ظل سيادة
الكيف تقصير الخطوط‏,‏ لتركيز كل ماتملك الدولة من إمكانات حقيقية صالحة
لتقديمها للناس في أحلي صورة‏,‏ وأرفع مستوي‏,‏ وأوسع قاعدة‏..‏ كمحاولة
جادة لإنقاذ الثقافة من مضار الكم‏,‏ وذلك بتقديم أعمال قيمة‏,‏ مهما قل
عددها إلي أكبر عدد من الناس‏,‏ دون الإحساس بأن إختيار هذا الكيف الثقافي
الراقي هو اختيار الصعب العسير في حد ذاته‏,‏ وإنما يكون الإقتناع بأن هذا
الكيف الثقافي هدفه حسن الانتقاء الدقيق‏,‏ والمستوي الراقي الذي يرتفع
بأذواق الجماهير‏,‏ يضاف إلي ذلك أن سياسة الكيف ترتبط بهدف لعله يتركز في
تكوين نخبة من المبدعين الحقيقيين في كل مجالات الثقافة‏..‏ ذلك لأن مهمة
وزارة الثقافة لاتقتصر علي إصدار الكتب‏,‏ أو إنتاج الأفلام‏,‏ أو تقديم
المسرحيات‏,‏ بل تمتد إلي إيجاد مناخ مناسب وتربة صالحة تنبت براعم تصبح
أزهارا من مؤلفي الكتب‏,‏ ومبدعي المسرحيات‏,‏ ومبتكري الأفلام‏