الانحراف الشخصي وتزييف الوعي السياسي‏!‏ بقلم : السيد يسين

من طرف جواهر الخميس فبراير 19, 2009 10:28 am

الانحراف الشخصي وتزييف الوعي السياسي‏!‏
بقلم : السيد يسين

هل يمكن أن تمرض المجتمعات كما يمرض الإنسان؟
سؤال
مهم أثاره علماء الاجتماع الذين اهتموا بدراسة الأزمات التي تمر بها
المجتمعات‏.‏ وقد توصلوا في هذا الصدد إلي نظريات تستحق التأمل‏,‏ صاغوها
تحت عنوان مثير هو الباثولوجيا الاجتماعية أو الأمراض الاجتماعية‏.‏

وهذا الفرع من فروع علم الاجتماع يدرس عديدا من الظواهر الاجتماعية المنحرفة التي تسود في أي مجتمع إنساني‏.‏

وقد
تختلف معدلات هذه الظواهر ارتفاعا وانخفاضا‏,‏ بحسب نوعية المجتمع ذاته من
ناحية‏,‏ والمرحلة التاريخية التي يمر بها من ناحية أخري‏.‏

ولو
نظرنا إلي المجتمع السياسي العربي المعاصر بأطرافه المتعددة التي تتمثل في
أجهزة السلطة السياسية الرسمية الحاكمة‏,‏ وأحزاب المعارضة‏,‏ ومؤسسات
المجتمع المدني‏,‏ لوصلنا إلي نتيجة صادمة‏,‏ هي أن هذا المجتمع في الواقع
يعد مجتمعا مريضا‏,‏ إذا ما استخدمنا في سبيل الوصول إلي هذا التشخيص عدة
مؤشرات كيفية وكمية‏.‏

ولعل نقطة البداية في تحليلنا تنطلق أساسا
من المرض السياسي العضال الذي ألم بالمجتمع السياسي العربي منذ عقود
طويلة‏,‏ وهو ظاهرة الاستبداد السياسي‏,‏ وانعدام المشاركة في اتخاذ
القرار‏,‏ مما أدي إلي صراعات بالغة الحدة والعنف بين القوي السياسية
العربية المعارضة‏,‏ سواء اتخذت شكل أحزاب سياسية مشروعة في الدول التي
تقر مبدأ التعددية السياسية‏,‏ أو حركات سرية تمارس المعارضة من خلال
تعبئة الجماهير ضد سياسات الأنظمة‏,‏ سواء في مجال السياسة الخارجية أو
الداخلية‏.‏

غير أن هناك دولا عربية شمولية لا تقر مبدأ التعددية
السياسية‏,‏ ومن هنا تلجأ المعارضة إلي أساليب سرية شتي‏,‏ وقد تستخدم
شبكة الإنترنت باعتبارها الفضاء الحر الطليق الذي لاتهيمن عليه
الحكومات‏,‏ لإطلاق مواقع الكترونية تنشر فيه بياناتها الثورية التي تعارض
فيها النظم الشمولية‏,‏ وقد تدعو إلي الانقلاب عليها‏.‏

في ظل هذا
المناخ الصراعي تتعدد الخطابات السياسية التي تعبر عن السلطة‏,‏ وتلك التي
تترجم دعوات المعارضة‏.‏ ليس ذلك فقط بل قد تنشأ حركات اجتماعية معارضة
سواء اتخذت أشكالا علنية مثل مؤسسات المجتمع المدني البازغة‏,‏ خصوصا تلك
التي تدعو لاحترام حقوق الإنسان‏,‏ أو اصطنعت وسائل سرية تبث من خلالها
الدعايات التحريضية ضد النظم الشمولية التي تقمعها‏,‏ سواء من خلال
القانون أو باستخدام أجهزة الأمن‏.‏

والسؤال الذي ينبغي إثارته
الآن هو‏:‏ ما طبيعة اللحظة التاريخية التي يمر بها المجتمع العربي‏,‏
والتي ساعدت علي إذكاء الصراعات السياسية العنيفة بين جنباته‏,‏ ما أدي
إلي صخب سياسي غير مسبوق‏,‏ تختلط فيه دعاوي النظم السياسية بأنها هي التي
تمثل الشرعية‏,‏ مع دعايات المعارضة التي يصوغها نشطاء سياسيون‏,‏ بعضهم
عقائديون ينتمون إلي تيار الإسلام السياسي اليميني أو التيار الماركسي
الاشتراكي اليساري‏,‏ أو التيار الليبرالي الوسطي‏.‏

اللحظة التاريخية التي يمر بها العالم والمجتمع العربي علي السواء هي تلك التي تتعلق بالتحول الديمقراطي‏.‏

والتحول الديمقراطي ـ بحسب التعريف ـ هو الانتقال من النماذج السياسية الشمولية والسلطوية إلي النموذج الليبرالي‏.‏

وقد
ساعد علي بلورة هذه اللحظة التاريخية انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان
نموذجا بارزا للشمولية التي تمارس الانفراد بالسلطة‏,‏ وتقمع الخصوم
السياسيين‏,‏ ولاتسمح إطلاقا بالتعددية السياسية‏,‏ والحزبية‏,‏ في مناخ
يسيطر عليه تقييد حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم‏.‏ في هذا
النموذج الشمولي لا وجود علي وجه الإطلاق لمؤسسات المجتمع المدني‏,‏ وليست
هناك مراكز اجتماعية تستطيع أن تكون لها مبادراتها المستقلة‏,‏ بعيدا عن
التوجهات الايديولوجية للدولة‏.‏

غير أن هناك نماذج أخري لدول
تسلطية تقف موقفا وسطا بين الشمولية من ناحية والليبرالية من ناحية
أخري‏.‏ فقد نجد فيها حرية نسبية لبعض المراكز الاجتماعية‏.‏ ولكن في ضوء
سياسة القمع السياسي الشامل للمعارضة‏.‏ ويبقي أمامنا النموذج الليبرالي
الذي يقبل تداول السلطة وتسوده التعددية السياسية وحرية التفكير وحرية
التعبير وحرية التنظيم‏.‏

التحول الديمقراطي أصبح مطلبا عالميا في
ظل العولمة‏,‏ ومن هنا تضغط الدول الغربية الديمقراطية علي الدول العربية
الشمولية والسلطوية لكي تنتقل إلي النظام الليبرالي بكل سماته المعروفة‏,‏
وفي ظل النموذج الرأسمالي الذي يؤمن ـ في ضوء إيديولوجية الليبرالية
الجديدةـ بكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد وإطلاق العنان لحرية السوق
بلا أي قيود أو حدود‏,‏ وبغض النظر عن التوازن الطبقي والاجتماعي الذي
سيصاب بالخلل‏,‏ والذي أدي بالفعل إلي تهميش طبقات اجتماعية كاملة ودفعها
دفعا إلي دوائر الفقر المدقع‏,‏ بالاضافة إلي سقوط الطبقة الوسطي في وهدة
الفقر نتيجة التضخم وتدني الأجور‏.‏

غير أن النظم الشمولية
والسلطوية تحارب معاركها الأخيرة للتشبث بالسلطة السياسية التقليدية‏,‏
ولذلك هي ترفض توجهات عملية التحول الديمقراطي التي يضغط النظام العالمي
من ناحية والمجتمع المدني العالمي من ناحية أخري لإتمامها‏.‏ وقد أدت هذه
الممانعة إلي صراعات بالغة الحدة والعنف بينها وبين قوي المعارضة السياسية
العربية‏.‏

وهذه الصراعات تأخذ أشكالا شتي بحسب نوع النظام السياسي
ذاته‏.‏ فعلي سبيل المثال تمر مصر بمرحلة تحول ديمقراطي بالغة الأهمية‏,‏
ومؤشرات هذا التحول متعددة‏,‏ لعل أهمها اتساع دائرة التعددية الحزبية وإن
كانت مقيدة‏,‏ وإطلاق حرية الصحافة إلي غير حد‏,‏ ونمو مؤسسات المجتمع
المدني وتنوع أنشطتها‏,‏ وظهور حركات احتجاجية متعددة تمارس نشاطاتها
المعارضة‏,‏ سواء من خلال الوقفات الاحتجاجية‏,‏ أو المظاهرات‏,‏ أو عقد
الاجتماعات العامة‏.‏

ومع كل ذلك فإن الصخب السياسي في مصر لا حدود
له‏!‏ ويرد ذلك إلي أسباب متعددة‏,‏ لعل أهمها أن ضعف أحزاب المعارضة دفع
بها إلي تبني مواقف حدية ضد النظام‏,‏ تقوم علي أساس الرفض الكامل المطلق
لكل السياسات الحكومية‏.‏

بالاضافة إلي وجود جماعة محظورة نشطة هي
جماعة الإخوان المسلمين التي تمارس المعارضة البرلمانية في مجلس الشعب لأن
لها أكثر من ثمانين نائبا‏,‏ غير أنه أهم من ذلك تمارس سياسة التحريض ضد
النظام من خلال تحركاتها الجماهيرية‏,‏ لأنها استطاعت جذب مواطنين كثيرين
إلي صفوفها من خلال رفع شعار الإسلام هو الحل وهو وإن كان شعارا بغير
مضمون‏,‏ فإنه استطاع تزييف الوعي السياسي لقطاع عريض من المواطنين‏,‏
الذين عجزوا عن إعمال عقولهم في التماس الحلول العقلانية للمشكلات المصرية
واكتفوا برفع هذا الشعار‏,‏ الذي لايضمن في الواقع حل أي مشكلة‏,‏ لأن
مشكلات المجتمع المعقدة لايمكن أن تحلها الفتاوي الدينية السطحية‏,‏ ولا
الدعوات المتطرفة‏,‏ التي تنطلق من رؤي للعالم تتسم بالمحافظة والجمود
والتطرف‏.‏

غير أن المسرح السياسي المصري الذي يزخر الآن بصحف
المعارضة والصحف المستقلة‏,‏ برزت علي خشبته شخصيات لم تكن معروفة من
قبل‏,‏ تمارس الكتابة الصحفية أو النشاط السياسي في الأحزاب أو خارجها‏,‏
أو في مؤسسات المجتمع المدني‏.‏

وعديد من هذه الشخصيات مصابة
بانحرافات شخصية متعددة أبرزها النرجسية الشديدة‏,‏ وادعاء بعضهم أنهم
وحدهم القادرون علي تخليص المجتمع المصري من أزماته المتعددة‏!‏ بل إن
بعضهم في معرض استعراض عضلاته الثورية المزعومة قام بسب الشعب نفسه واتهمه
بالجبن لأنه لم يقم بثورة علي النظام استجابة لمقالاته التافهة وكأن
الثورة ليست أكثر من مظاهرة أو وقفة احتجاجية تنطلق فيها الحناجر لمهاجمة
النظام‏!‏ مع أن الثورة ـ لمن يعرف ولمن يدرس التاريخ العالمي والتاريخ
العربي ـ حدث جلل لايتكرر ببساطة في تاريخ الأمم‏,‏ وهي لايمكن أن تحدث
إلا إذا نشأ مايطلق عليه الموقف الثوري الذي تبلور قبل ثورة يوليو‏1952,‏
حين احتدمت المشكلة الاجتماعية‏,‏ ونعني الفجوة العميقة بين من يملكون
وبين من لايملكون من ناحية‏,‏ والمشكلة الوطنية من ناحية أخري‏,‏ ونعني
الاحتلال الإنجليزي لمصر في هذه الحقبة التاريخية‏.‏

لذلك حين قامت
ثورة يوليو‏1952,‏ كانت استجابة لحركة الشعب المصري بقواه المختلفة من
أقصي اليمين إلي أقصي اليسار في رفض النظام القديم والدعوة إلي إسقاطه‏,‏
وبناء نظام اجتماعي جديد يقوم علي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية‏.‏

والواقع
أننا نستطيع أن نفهم وأن نحلل سر المرض السائد في المجتمع العربي المعاصر
لو انتقلنا ـ في مجال دراسة الأمراض الاجتماعية ـ من إطار نظري متماسك
يتحدث عن ثلاثة مقتربات لفهم الظاهرة‏.‏

المقترب الأول‏:‏ هو نهج
الاحتلال الاجتماعي الذي يدرس الأزمة باعتبارها نتاج التغير الاجتماعي
العميق‏.‏ وهذا التغير الاجتماعي مرده أساسا إلي التغييرات الأساسية التي
لحقت ببنية المجتمع العالمي وأبرزها ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية
والاقتصادية والثقافية‏,‏ وعجز المجتمع العربي عن التفاعل الإيجابي الخلاق
معها‏.‏

والمقترب الثاني‏:‏ هو نهج صراع القيم والذي يدرس ويحلل
القيم المتصارعة في المجتمع‏,‏ وهي في المجتمع العربي المعاصر تتمثل في
الصراع بين رؤية دينية للعالم تتسم بالانغلاق والجمود‏,‏ وتتبناها الأحزاب
السياسية الإسلامية والحركات الإسلامية كلها علي اختلاف توجهاتها‏,‏ ورؤية
علمانية تتبناها القوي السياسية العلمانية والديمقراطية‏.‏

والمقترب
الثالث‏:‏ والأخير‏:‏ هو نهج الانحراف الشخصي بحسبانه نتاج سلوك بعض
السياسيين أو المثقفين الذين ظنوا وهما أنهم وحدهم ـ القادرون علي حل
مشكلات المجتمع‏,‏ انطلاقا من إحساس متضخم بالذات‏,‏ وتشوش فكري لامثيل
له‏,‏ تختلط فيه الأفكار الإسلامية التقليدية أو المتطرفة‏,‏ مع بعض
الأفكار الماركسية أو الاشتراكية السطحية‏,‏ مع بعض الدعاوي العروبية التي
تنكر فكرة الوطنية‏,‏ وتدعو إلي الأممية الإسلامية‏,‏ أو إلي الوحدة
العربية بغير تأمل أو دراسة أو تحليل‏.‏

لعل التحليل السابق الذي
حاولنا من خلاله دراسة الأمراض السائدة في المجتمع العربي المعاصر يساعدنا
علي فهم عديد من الخطابات السياسية والصحافية الغوغائية التي لاتنطلق من
تحليل علمي دقيق للأزمة‏,‏ ولا من دراسة رصينة للبدائل السياسية
المطروحة‏,‏ ولا من بحث تاريخي ونقدي مقارن لتجارب الشعوب الأخري‏.‏

التحول
الديمقراطي العربي ليس دعوة من قبل النظام العالمي فقط‏,‏ لكنه مطلب
جماهيري أصيل‏,‏ وعلي السلطة السياسية في مختلف النظم العربية أن تراجع
موقف الممانعة الذي تتخذه منه‏,‏ وعلي القوي السياسية المعارضة أيا كانت
توجهاتها أن ترشد خطابها‏,‏ وأن تبتعد قدر الطاقة عن اللاعبين في السيرك
السياسي الذين يقومون بأدوار بهلوانية مضحكة‏,‏ في ضوء الوهم السائد لديهم
بأنهم المعبرون عن الجماهير‏,‏ مع أن الجماهير لها قياداتها الشعبية
المعروفة ذات التاريخ الوطني القومي‏.‏ وهذه القيادات الشعبية قادرة من
خلال النضال السلمي الديمقراطي علي أن تضغط علي السلطات السياسية حتي
تستجيب لمطالب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية‏.‏