الشيخ محمد رفعت‏..‏ قيثارة السمـاء بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي

من طرف roidaa السبت فبراير 21, 2009 10:13 am

الشيخ محمد رفعت‏..‏
قيثارة السمـاء
بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي

الله أكبر‏..‏ الله أكبر‏..‏ الله أكبر‏..‏ الله أكبر

يا
رفعت هاتها كما أذن بها بلال بن رباح‏..‏ و‏..‏ جربوا معي أن تسمعوا
الآذان بصوت محمد رفعت حيث تغدو القلوب المسلمة كالنسمة الساكنة تردد في
همس وخشوع كلمات الآذان‏..‏
أشهد أن لا إله إلا الله‏..‏ أشهد أن محمدا رسول الله
حي علي الصلاة‏..‏ حي علي الفلاح

و‏..‏
من بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم لم يعد يصدح بالآذان صوت بلال
الشجي الحفي المهيب‏,‏ ذلك أنه لم يكن ينطق في آذانه‏:‏ أشهد أن محمدا
رسول الله حتي تجيش به الذكريات فيختفي صوته تحت وقع أساه وتصيح بالكلمات
دموعه وعبراته‏..‏ وكان آخر آذان له أيام زار الشام أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب‏,‏ وتوسل المسلمون إليه أن يحمل بلالا الذي نزح إليها ــ للذود عن
الديار ــ علي أن يؤذن لهم صلاة واحدة‏..‏ ودعا أمير المؤمنين بلالا وقد
حان وقت الصلاة‏,‏ ورجاه أن يؤذن لها‏

‏ وصعد بلال وأذن فبكي وأبكي
الصحابة الذين كانوا قد أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له‏..‏ بكوا وكان عمر
أشدهم بكاء‏...‏ ويؤذن الشيخ محمد رفعت فكأنما هو الآذان الأعظم‏..‏
وكأنما يوم الحشر العظيم الذي يقوم عليه الناس لرب العالمين‏..‏ وكأنما
تهتز لتهليله وتكبيره السماء‏,‏ وتخشع له الأرض‏,‏ وتهتز الخلائق‏,‏
وتختلج المشاعر‏..‏ ونحن نعرف أن للجملة الموسيقية قرارا وجوابا‏,‏ وغالبا
ما يكون القرار مدخلا للجواب حتي يكون الجواب أعلي نبرة وقوة‏

ولكن
شيخنا الجليل الذي يوقر لفظ الجلالة يعطي للقرار النبرة الأعلي‏,‏ فيقول
الله أكبر لتخرج كلمة الله بتهليلة هائلة أعلي وأقوي من الجواب‏,‏ وكأنك
تسمع تهليلة الآذان تجلجل في السماء‏,‏ وكأن جميع الخلائق والكائنات تهب
واقفة إجلالا واحتراما لعظمة هذا الآذان وهيبته‏.‏

هو منحة الأقدار
حين تهادن وتجود‏,‏ وتكريم منها لنوعنا الإنساني بين المخلوقات‏,‏ فهو خير
من رتل القرآن وخير من تلاه في زماننا وإلي أن يشاء الله كان هذا هو رأي
الشيخ المراغي شيخ الأزهر الأسبق في الشيخ محمد رفعت قيثارة السماء الذي
ولد بحي المغربلين بالقاهرة في مايو عام‏1882‏ وتوفي أيضا في مايو
بالقاهرة في عام‏1950‏ بعد‏68‏ عاما من مولده‏,‏ وافتتح إرسال الإذاعة
المصرية بتلاوة بعض آيات الذكر الحكيم بصوته الرخيم في مايو‏1934..‏

وليس
كل ما كان يصدر من أفعال وأقوال الأسرة العلوية ظالما أو فاسدا أو خائنا
أو ماجنا كما جاء في مناهج تعليمنا بعد قيام ثورة يوليو‏,‏ فإلي البرنس
محمد علي ولي العهد يعود اكتشاف الشيخ محمد رفعت وبداية رحلته مع
الاحتراف‏,‏ فقد استمع إليه مصادفة أثناء قراءته في أحد المآتم عام‏1934‏
فأعجب بصوته وبأسلوب تلاوته فأرسل إليه يطلب منه أن يفتتح الإذاعة المصرية
بتلاوة القرآن الكريم‏,‏ فكان ذلك فتحا كبيرا لقيثارة القرآن

حيث
كان علي موعد مع التاريخ كأول قارئ ينطلق صوته من ميكروفون هنا
القاهرة‏..‏ ولأن أكثر ما كان يميز الشيخ رفعت غير معجزة صوته هو اعتزازه
بنفسه‏,‏ فعندما طلب زيادة أجره رفض الدكتور طه حسين الذي كان وقتها في
لجنة تقويم واختبار القراء‏,‏ وقال‏:‏ هو يعني الشيخ رفعت بيعمل إيه علشان
يطلب زيادة أجره‏,‏ ده مجرد قارئ وليس مؤلفا هو ولا غيره‏..‏ وهنا غضب
الشيخ رفعت‏

‏ورد الإهانة بإهانة مماثلة قائلا‏:‏ إذا ما كان الأمر
سهلا هكذا فلماذا لا يقرأ طه حسين القرآن بصوته لنستمع إليه كيف
يقرأ؟‏!..‏ وانقطع الشيخ رفعت عن الميكروفون ليبحث عنه الملك فاروق الذي
كان يحب صوته فافتقده ليسأل عنه الشيخ عبدالله عفيفي إمام مسجده بالسراي
الملكي‏,‏ فاتصل عبدالله بالإذاعة وطلب من عبدالحميد يونس ــ مدير الإذاعة
في ذلك الوقت ــ إعادة الشيخ رفعت لمكانته وراء الميكروفون الذي بهت
وللقلوب التي ظمأت‏,‏ وبالفعل عاد‏,‏ وعاد الهواة يسجلون له عبر الأثير‏..‏

في
طفولته كان أجمل أطفال الحي‏,‏ وأجمل ما فيه كانت عيناه التي فتحهما في
منزل صغير بدرب الأغواث بشارع محمد علي‏,‏ وكان والده محمود بك ــ الذي
أعطاه المحيطون به لقب البكوية كنوع من الاحترام والتبجيل لمأمور قسم
الخليفة ــ يحبه بشغف حتي إنه كان لا يتركه يمشي علي قدميه بل يحمله دوما
علي كتفيه ويسير به متباهيا ويصعد به السلم متفاخرا بحمله‏..‏ وقابلته
يوما إحدي جارات الدرب لتسأله باندهاش‏:‏ مين الولد الأبيض بديع الحسن يا
محمود بك‏..‏

فأجابها بزهو‏:‏ ابني محمد‏..‏ فصاحت في وجهه دون أن
تصلي علي النبي‏:‏ مستحيل‏!!‏ ده ما يصحش يسكن هنا في دربنا وإنما مكانه
في قصر من القصور‏,‏ لأنه شكله ولا أولاد الملوك‏..‏ ويا خرابي علي رمش
عينه الواصل لكرسي خده‏,‏ هوه ده العيل اللي ماجابتوش ولادة صحيح‏..‏ وعاد
البيه بابنه للبيت والولد علي صرخة واحدة للصبح‏,‏ وداخ به السبع دوخات
عند الأطباء‏,‏ وأجري له الدكتور روكشي جراحة لم يصادفها النجاح

وضاع
النظر من عيون محمد الصغير ليبكي أبوه طويلا عندما يسمع الابن الكفيف وهو
ينكفئ في أحضانه سائلا‏:‏ امتي حيطلع النهار؟‏!‏ ويضمه الأب محاولا ألا
يتهدج صوته بالبكاء مزيحا أصابع الصغير عن وجهه حتي لا تبللها دموعه‏:‏
حتتعود يا محمد علي الضلمة‏,‏ وحتشوف يا ابني بقلبك أكثر من عنيك‏.‏

وفي
الخامسة بدأ محمد في حفظ القرآن ليظل والده يحمله كعادته علي كتفيه وهو
يرتله معه‏,‏ وفجأة يصرخ الصغير من أعلي‏:‏ لقد أخطأت‏..‏ ثم رده في الآية
التي يرتلها‏..‏ ولم يتمالك الأب نفسه من الغضب فأنزله عن كتفيه ليلقي به
أرضا‏,‏ ومضي يبحث عن المصحف ليجد الصغير علي حق‏..‏ ويهب محمود بك ابنه
لخدمة القرآن الكريم طبقا للأعراف التي كان يتبعها أهالي المكفوفين ليلتحق
الشيخ رفعت بكتاب مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز‏,‏ وقبل أن يتم الصغير
عامه السابع أنجز حفظ القرآن الكريم‏

وفي العاشرة أتقن تجويده
وترتيله علي القراءات السبع وكأن الأقدار كانت تهيئ الشيخ الصغير لإعالة
أسرته المكونة من‏8‏ أفراد فمكث يقرأ القرآن في المساجد الملاصقة لمنزله
علي مدي‏4‏ سنوت حتي ذاع صيته‏,‏ وبوفاة والده في عام‏1897‏ لم يجد الصغير
سوي الارتزاق من التلاوة لتعينه وزارة الأوقاف قارئا وهو لم يزل في
الخامسة عشرة في المسجد المواجه لمكتب فاضل باشا‏

وبعد أشهر تعد
علي أصابع اليد الواحدة ذاع صيته لدرجة أن ساحة المسجد وطرقاته امتلأت
بالمستمعين الذين جاءوا ليصغون إلي الحنجرة الملائكية‏,‏ وكانت ساحة
المسجد تشهد حالات إغماء ووجد أسبوعيا من شدة التأثر بالصوت الفريد‏,‏ وظل
الشيخ قارئا هناك طوال‏30‏ عاما وفاء وتقديرا للمكان الذي انطلق منه‏..‏

وحاولت
محطات الإذاعة الأهلية إغراء الشيخ لتذيع القرآن بصوته فرفض بشدة بقوله‏:‏
إن وقار القرآن النازل بالوحي من الله لا يتماشي مع الأغاني الخليعة التي
تذيعها محطات الإذاعة‏..‏ وكانت الجماهير تريد سماع محمد رفعت بأي شكل‏,‏
فإذا لم يكن يريد ترديد الآيات البينات في تلك المحطات فليكن السماع
للأغاني المأخوذة من الشعر القديم الوقور‏,‏ ووافق محمد رفعت علي غناء بعض
المقطوعات علي عوده بشرط ألا يذكر اسمه‏

وشدي أيامها‏:‏ وحقك أنت
المني والطلب‏,‏ وبحق هواك يا من أنت عمري وارتفعت رايات الإعجاب
والانبهار للصوت النادر الآت من جهاز الراديو

وعندما ألغيت المحطات
الأهلية وأنشئت شركة ماركوني للإذاعة المصرية حاول سعيد لطفي باشا التعاقد
مع الشيخ رفعت ليذيع القرآن في حفلة الافتتاح فرفض بقوله‏:‏ إن القرآن لم
يخلق ليرتل أمام الميكروفونات الصماء‏!‏

ويلح الباشا فيطلب الشيخ
مهلة أسبوعين يذهب فيهما ليستفتي الشيخ السمالوطي أحد أعضاء هيئة كبار
العلماء‏:‏ هل إذاعة القرآن حرام أم حلال؟ وأفتاه السمالوطي حلال‏..‏ وكرر
رفعت السؤال‏:‏ يعني أروح أذيع؟‏!‏

فاحتد السمالوطي قائلا‏:‏ ما
قلنا روح‏!..‏ ورغم إصراره في السؤال ورغم الفتوي بالإجازة عاد رفعت
يقول‏:‏ أليس حراما أن يتلي القرآن والناس يستمعون وهم جلوس بالحانات
والمقاهي ونوادي القمار؟‏..‏ هنا سأله السمالوطي‏:‏ أما ستتلوه وأنت في
مكان طاهر؟‏!‏ فأجابه متعجبا‏:‏ بالطبع‏!‏ فأوجز الإجابة‏:‏ إذن اذهب وردد
الآيات البينات بثقة وثبات وإيمان ولا تخشي ضميرك‏..‏ ولم يهدأ بال محمد
رفعت فترك الشيخ السمالوطي ليذهب للشيخ الظواهري ــ شيخ الجامع الأزهر
وقتها ــ يستفتيه بادئا سؤاله‏:‏ يا سيدي‏..‏ فقاطعه الشيخ الظواهري من
أولها بقوله‏:‏ أعرف ما سوف تسألني عنه‏..‏ تعال معي‏..‏ وأخذه من يده إلي
ركن فيه الراديو قائلا‏:‏ لقد اشتريت هذا الجهاز خصيصا بالأمس كي أسمعك
وحدك‏..‏

الشيخ محمد رفعت‏..‏ قيثارة السمـاء بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي 44637_40m

من طرف roidaa السبت فبراير 21, 2009 10:14 am

ويطمئن
ضمير الشيخ محمد رفعت ويجلس إلي ميكروفون الإذاعة ليرتل بصوته الملائكي
فتخفق لصوته قلوب الملايين العطشي لما جاء في أعظم كتاب‏,‏ الذين يدركون
أنه ليس يقرأ فحسب قراءة تسميع وحفظ بل قراءة شرح وتفسير وتنوير
وتشخيص‏..‏ قراءة فذة كأنك لا تسمع بل تشاهد‏,‏ ولا تشاهد بل تعايش‏..‏
ذروة توقظ العقل وتشيع في الوجدان وكأنك تعيش لحظة نزول الوحي علي سيدنا
محمد صلي الله عليه وسلم‏..‏ يرتل القرآن ترتيلا‏,‏ والترتيل هو تجويد
الحروف ومعرفة الوقوف‏..‏ يقرأ القرآن بحزن وشجن كما قال صلي الله عليه
وسلم‏:‏ إن هذا القرآن نزل بحزن فاقرؤوه بحزن‏..‏ سيد التصوير والدراما
للمشاهد القرآنية في سور البقرة والرعد والمائدة والأنعام والكهف ومريم
وطه والقمر وغيرها

فهو مثلا في سورة البقرة يصور الحوار وكأنه
يسمعه بدقة شديدة في أمر ذبح البقرة التي أمر الله علي لسان سيدنا موسي
بذبحها‏:‏ وإذ قال موسي لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة حتي نهاية
الآيات‏,‏ وكيف يتغير الحوار ليظهر كثرة جدل بني إسرائيل‏,‏ وفي سورة
المائدة يغضب غضبة شديدة لله حين يقرأ بعنف وحدة وقالت اليهود يد الله
مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا وكيف يضغط علي حروف كلمة غلت وكلمة
لعنوا‏..‏ وفي سورة الكهف يصور حال أصحابه أبدع تصوير بحنجرته الذهبية
وكأنه يراهم‏:‏ وتري الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت
تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه‏

كما يصور الحوار الجدلي العجيب
بين سيدنا موسي والخضر بما فيه من رجاء واتفاق وانطلاق ثم استنكار واعتذار
وافتراق‏,‏ وكان الشيخ سيد التكرار الجميل‏..‏ في سورة هود يقرأ ويبشر
وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما
شاء ربك عطاء غير مجذوذ يكررها‏6‏ مرات مختلفات بشكل يفوق كل وصف بقصد
الحث والترغيب والتجميل والتشويق‏..‏ وفي سورة التوبة يقرأ ويبشر‏:‏ وعد
الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن
طيبة في جنات عدن ورضوان من الله يكررها‏6‏ مرات‏..‏ الخ‏..‏ وكان الشيخ
محمد رفعت سيد الوقف البديع‏,‏ فلم يقف أحد قبله أو بعده عند كلمة فانطلقا
وذلك في سورة الكهف لدي قراءاته للآيات فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتي
أحدث لك منه ذكرا فانطلقا وذلك ليعطي تصويرا دقيقا للسؤال والاعتراض ثم
الاتفاق والانطلاق‏..‏

الشيخ محمد رفعت‏..‏ حمل القرآن فكان أحسن
من رتله‏..‏ أحسسنا معه بالرهبة عند الزجر‏,‏ والطاعة عند الأمر‏,‏
والخشية عند الوعيد‏,‏ والهلع عند التهديد‏,‏ والعطف والإحسان عند رحمة
الرحمن‏,‏ والأمل عند التوبة والغفران‏..‏ الشيخ محمد رفعت سيد القارئين
وإمام المجودين والمرتلين ما أبلغه وأجمله عندما رتل كلمة الرحمن‏..‏ كلمة
واحدة في معناها الرحمة وفي رنينها الإعلان‏,‏ ومن بعدها معرض لآلاء ونعم
الرحمن‏..‏ الرحمن‏..‏ المطلع المقصود بلفظه ومعناه‏,‏ وإيقاعه
وموسيقاه‏..‏ الرحمن‏..‏ بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلي بعيد‏,‏ يجلجل في
طباق الوجود‏,‏ ويخاطب كل موجود‏,‏ ويتلفت علي رنته كل كائن‏,‏ وهو يملأ
فضاء السماوات والأرض‏,‏ ويبلغ إلي كل سمع وكل قلب‏..‏ الرحمن‏..‏ وينصت
الوجود كله‏,‏ في ارتقاب الخبر العظيم من بعد المطلع العظيم‏.‏

ثم
يجيء الخبر المترقب‏,‏ الذي يخفق له ضمير الوجود‏:‏ الرحمن‏,‏ علم
القرآن‏.‏ خلق الإنسان علمه البيان‏.‏ الشمس والقمر بحسبان‏.‏ والنجم
والشجر يسجدان‏.‏ والسماء رفعها ووضع الميزان‏.‏ ألا تطغوا في الميزان‏.‏
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان‏.‏ والأرض وضعها للأنام‏.‏ فيها
فاكهة والنخل ذات الأكمام‏.‏ والحب ذو العصف والريحان‏.‏ فبأي آلاء ربكما
تكذبان‏..‏ ويغسل الصوت الملائكي أدران القلوب بالإيقاع الأخير‏,‏ تسبيحا
باسم الجليل الكريم عندما يفني كل حي‏,‏ ويبقي وجهه الكريم‏:‏ تبارك اسم
ربك ذي الجلال والإكرام‏.‏

ويسألون الشيخ محمد متولي الشعراوي ــ
رحمه الله ــ عن رأيه في كل من الشيوخ محمود خليل الحصري وعبدالباسط
عبدالصمد ومصطفي إسماعيل ومحمد رفعت فأجاب الشعراوي بقوله‏:‏ إن أردنا
أحكام التلاوة فهو الحصري‏.‏ وإن أردنا حلاوة الصوت فهو عبدالباسط
عبدالصمد‏,‏ وإن أردنا النفس الطويل مع العذوبة فهو مصطفي إسماعيل‏,‏ وإن
أردنا هؤلاء جميعا فهو الشيخ محمد رفعت‏..‏ نعم لأنه الصوت الذي تجسدت فيه
كل معاني القرآن الكريم‏..‏ صوت يخرج من القلب ليصب في القلب‏..‏ ولقد
استطاع صوت الشيخ محمد رفعت أن ينفذ إلي قلب الطيار الأمريكي مستر ريت
الذي استمع إليه في كندا وهو يبعد عنه آلاف الأميال لمجرد الإنصات لمدة
ثلاث دقائق عندما كان يدير أزرار محطات الإذاعات العالمية‏..‏

رجل
لا يفقه العربية ولم يسمع بها من قبل‏,‏ لكن الصوت النافذ للوجدان جعله
يسافر إلي آخر الأرض ليلقي صاحب الصوت الذي ملأه روحانية وشفافية‏,‏ حيث
قال الكثير عندما التقي به علي أرض مصر لينحني يقبل يد الشيخ الذي سحبها
منه سريعا بقوله‏:‏ أستغفر الله‏..‏ لا تحملني يا ابني ذنبا بتقبيل يدي‏..‏

قيثارة
السماء لم تكن لتكتمل أدواته بدون دراسة الموسيقي والإلمام بقواعدها وطبع
صوته بسحرها‏,‏ فأكب علي تعلم قواعدها من خلال العزف علي العود وحفظ
الكثير من إبداعات كبار ملحني عصره‏,‏ من أمثال الشيخ محمد عبدالرحيم
المسلوب وعبده الحامولي ومحمد عثمان‏

وأضاف إلي ذلك المئات من
الابتهالات والتواشيح الدينية التي برع فيها كوكبة من شيوخ ذلك العصر
أمثال يوسف المنيلاوي ومحمود سكر إلي جانب إنصاته لموسيقي أشهر
العالميين‏,‏ وكان مغرما بعازف الكمان الإيطالي الشهير نيقولا باجانيني
ويقتني من أعماله العديد من الأسطوانات و‏..‏ كانت لديه المقدرة علي
الانتقال من مقام موسيقي إلي آخر في سهولة وتناسق ومقدرة في مقام
الإعجاز‏,‏ فهو يعلو وينخفض ويتنوع في النبرة والدرجة واللحن دون نشاز

وكان
في صوته‏18‏ مقاما تشمل الأقسام الثلاثة من الأصوات الرجالية وهي الباص
والباريتون والتينور وكان صوته خافتا وعندما استخدمت الميكروفونات استطاعت
أن تصل به إلي المسافات البعيدة دون أن تضيف إليه شيئا‏..‏ و‏..‏ يركب
الشيخ محمد رفعت عربته الحنطور إلي حدائق الحيوان في الجيزة ليمكث رابضا
أمام قفص الأسد يملأ أذنيه ليس بصوت الزئير في علاه وإنما برجع القرار
والدوزنة السابقة لتعاشق النغمات في الحنجرة الملكية التي عندما تنطلق
تسود‏..‏

وفي صومعته كان يجلس شاحذا جميع حواسه منصتا لجهاز
الفونوغراف القديم ذي البوق الكبير بعد أن يغرز إبرته في أسطوانات
الأوبرات والسيمفونيات العالمية لتغزوه كلاسيكيات موزارت وباخ وبتهوفن
وفاجنر‏..‏ ويعلم أحد الأزهريين أن الشيخ رفعت يستمع إلي الموسيقي الغربية
فيكتب في المجلة الأزهرية مهاجما الشيخ في مقال ناري بعنوان‏:‏ ماذا حدث
للشيخ رفعت؟‏!..‏

الذي جاء في بعض سطوره‏:‏ لقد اكتشفت شيئا مذهلا
ولم أكن أتصور أبدا أن يفعل الشيخ هذا‏!!‏ هل تصدقون يا سادة أن الشيخ
محمد رفعت يسمع موسيقي غربية لغير المسلمين؟‏!..‏ إنني أنصح الشيخ أن يكف
عن سماع هذه التفاهات حتي نظل نحبه ونظل نقدره‏....‏ ويقرأ الشيخ رفعت
الهجوم فيقرر سماعه لتلك الموسيقي في الخفاء بعيدا عن العيون‏..‏ وكان
محمد عبدالوهاب من أقرب المقربين إلي الشيخ محمد رفعت يجلس تحت قدميه وهو
يستمع إليه في خشوع والدموع تنهمر من عينيه‏

وشاهده يوما علي هذا
الوضع عبدالعظيم باشا عبدالحق فسأله‏:‏ ماذا تفعل تحت أقدام الشيخ فيجيبه
إني أستمع إلي القيثارة السماوية وأتعبد‏..‏ إن صوت الشيخ رفعت آلة ربانية
لا مثيل لها في هذا الكون‏,‏ وعندما يقرأ الشيخ رفعت القرآن أتحول إلي
خادم وأجلس تحت قدميه‏.‏ وتجد الذين كانوا يصخبون ويصرخون قد لانوا ونعموا
وذابوا وكأن ليس بهم عظام‏......‏ وصدق الله حين قال‏:‏ لو أنزلنا هذا
القرآن علي جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله‏.‏

ويعجب الشيخ
بكل ما يغنيه محمد عبدالوهاب من تأليف أمير الشعراء أحمد شوقي فيغني له
عبدالوهاب‏:‏ يا شراعا وراء دجلة يجري ويستعيد الشيخ منه يا جارة الوادي
طربت وعادني وجبل التوباد والنيل نجاشي حليوة أسمر‏,‏ وينصح الشيخ مطربه
المفضل بقوله‏:‏ غن دائما للمؤلف المحترم لأنه يكسب الاحترام للمطرب
والأغنية ويغني الشيخ رفعت لأبي فراس الحمداني‏:‏

أراك عصي الدمع شيمتك الصبرأما للهوي نهي عليك ولا أمر

وكان
البيت في أصله شيمتك الغدر فقد كان من قواعد الغزل أن تتدلل الحسناء
وتغدر‏,‏ لكن أم كلثوم بدلت الغدر إلي الصبر‏,‏ وكان الشيخ رفعت يردد جملة
نعم أنا مشتاق‏..‏ يرددها أكثر من مرة ليبكي عبدالوهاب طربا ويطالبه
بإعادة وإعادة وإعادة جديدة‏..‏ ويلتقي الشيخ محمد رفعت بالمطربة منيرة
المهدية التي تهديه العديد من أسطواناتها فينصحها بقوله‏:‏ صوتك جميل يا
ست منيرة‏..‏ لكن ليته يمتنع عن أداء‏(‏ ارخي الستارة‏)‏ وتعده المهدية
بتخفيف حدة هذه الأغاني‏..‏ ويسهم صوت الشيخ محمد رفعت مساهمة فعالة في
الحرب العالمية الثانية‏,‏ حيث تعرف دول العالم أثره في النفوس فكانت
إذاعة لندن كمثال تقول لمستمعيها‏:‏ ستستمعون إلي قيثارة السماء قبل كل
نشرة أخبار‏,‏ وكانت إذاعة باريس تذيع تسجيلاته قبل وبعد أي خبر مهم‏,‏
أما إذاعة برلين فكانت تذيع قراءاته قبل أي حديث لقائد عسكري‏..‏

ويذهب
الشيخ لطنطا ليقرأ في حفل افتتاح فرع بنك هناك‏,‏ ويدعوه الأهالي للقراءة
يوم الجمعة في أحد المساجد‏,‏ وطلبوا منه تلاوة سورة الجمعة فبدأ يقرأ حتي
امتدت فريضة الجمعة إلي عصر ذلك اليوم‏,‏ وفي ليلة من عام‏1930‏ توفيت
إحدي كريمات حسن الملا عضو معهد الموسيقي وجاء كبار القراء إلي سرادق
المأتم مجاملة لأبيها‏,‏ وفي تلك الليلة تباري هؤلاء المشاهير حتي امتلأ
السرادق والشوارع المحيطة بجماهير المستمعين‏,‏ فلما جاء دور الشيخ محمد
رفعت في التلاوة فتح الله عليه وأخذ يتدرج في الإبداع حتي خرجت الجماهير
عن طورها‏,‏ وأخذت تتصايح بصوت عال كاد يفقد المناسبة وقارها الله‏..‏
الله وعندئذ انفعل زوج المتوفية علي راغب وكيل قسم الكيمياء بوزارة
الزراعة صائحا في الجمهور‏:‏ يا ناس حرام‏..‏ ده ميتم مش فرح‏..‏ كفاية
كده يا شيخ رفعت‏

وسكت الشيخ لينتقل بعدها إلي نغمة أخري فيها نبرة
الحزن والأسي‏..‏ وأرادت أسرة كبيرة أن تحيي ليلة مأتم كبيرها بقراءة
الشيخ رفعت في سرادقها ولما كان مشغولا لمدة ثلاث ليال قامت الأسرة بتأخير
إعلان الوفاة حتي يتفرغ القارئ وأجلت دفن الفقيد لمدة‏24‏ ساعة لتوفيق
أوضاعها الجنائزية‏..‏ ورحمة الله علي الشيخ محمد رفعت الذي ذهب ليقرأ في
وفاة زوجة فراش مسجد فاضل رافضا لمبلغ مائة جنيه ذهبا لإحياء ليلة مأتم
شقيق مرتضي باشا غنام‏,‏ ومن زهده في المال رفض دعوة عام‏1935‏ قدمها
المهراجا نظام حيدر أباد للاحتفال باليوبيل الفضي في الهند‏,‏ وقام
المهراجا بالاتصال بوزارتي الخارجية والداخلية للوساطة فرفض الشيخ بحجة
المرض‏,‏ فأبدي المهراجا استعداده بإرسال ثلاثة أطباء ليكونوا في خدمة
الشيخ طوال رحلته لكن الرفض كان قاطعا رغم عرض المهراجا مائة جنيه ذهب
يوميا‏..‏

وفي حياة الشيخ جوانب أخري لم يسلط عليها الضوء أبرزها
الجانب المرح فـالبكاء الذي كانت دموع قلبه في نبرات صوته لم يكن ينسي
نصيبه من الدنيا فيمرح ويداعب ويلقي بالدعابة في براعة القادرين‏,‏ وقد
جمعته جلسة في بيته ذات مرة بصديقيه المقربين بديع خيري والمرحوم نجيب
الريحاني استمرت أكثر من ساعتين ضجت فيها أركان الحجرة من الضحك المتعالي
فقد كان الأقطاب الثلاثة يتبارون في القفشات علي نحو جعل الريحاني وبديع
يقولان للشيخ رفعت إذ بهرهم بذكاء تعليقاته‏:‏ جري إيه يا مولانا؟ ده واجب
علينا‏!‏

وفجأة في عام‏1943‏ عندما انطلق صوته السماوي بسورة الكهف
احتبس الصوت وهو يقرأ قوله تعالي‏:‏ واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما
جنتين من أعناب‏..‏ وحاول إعادة الآية لكن الزغطة صاحبت الكلمة‏,‏ وكلما
أعاد ليتخلص منها تزايدت وسيطرت لتكون بداية للنهاية التي أتت في‏10‏ من
مايو عام‏1950‏ في الثانية صباحا بعدما طلب من زوجته الثانية جرعة ماء
ولما ارتوي سألها عن أبنائه الأربعة كل باسمه‏,‏ وعادت تسأله بدورها‏:‏
نفسك في حاجة؟‏!‏ فأجاب‏:‏ شكرا‏..‏ بينما لسان حال الموت يردد موشحا
طالما كان لسان حاله أيام كان لسانه الإعجاز‏:‏

يا رب قد عجز الطبيب فداوني‏..‏
بدوائك الخــافي عــن الإبصـار‏..‏

انت الذي قلت في محكم التنزيل‏:‏
ادعوني أستجب لكم

ودليلنا قد جاء في القرآن ثم الصلاة علي النبي وآله
المصطفي المبعوث من عدنان‏.‏

ومضي
العبقري إلي ربه‏,‏ ومعه صوته الخالد‏,‏ حتي الأشرطة القليلة التي بقيت من
بعده ليس فيها من صوته الذهبي إلا صدي باهت متحشرج‏,‏ فالعمق مات‏,‏
والعملاق مات‏,‏ والضرير البصير مات‏,‏ والفيض مات‏,‏ ومات الصوت
الجامع‏..‏ ورحل رمز جلال الترتيل‏,‏ حيث لا مجال لمقارنة الهضاب بجبل
التوباد‏.‏

‏selbssi@ahram.org.eg‏

الشيخ محمد رفعت‏..‏ قيثارة السمـاء بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي

الشيخ محمد رفعت‏..‏ قيثارة السمـاء بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي

رد: الشيخ محمد رفعت‏..‏ قيثارة السمـاء بقلم‏:‏ ســنـاء البيـــسي