السياسة الأمريكية والثقافة الأمريكية بقلم : د‏.‏ بركات عبد العزيز

من طرف **ايمان** الأحد فبراير 22, 2009 11:29 am

السياسة الأمريكية والثقافة الأمريكية
بقلم : د‏.‏ بركات عبد العزيز

إذا
كانت السياسة في ابسط معانيها هي فن الممكن‏,‏ فإن الثقافة في معناها
العام هي أسلوب حياة المجتمع‏,‏ فالثقافة تتصف بالشمول والعمق في مختلف
جوانب الشخصية من المنظورين الفردي والقومي‏,‏ والثقافة يصنعها الأفراد
والجماعات في سياق أنشطتهم وعلاقاتهم بما يشكل ملامح مميزة لطريقة الحياة
التي تتناقلها الأجيال‏,‏ وتضيف إليها‏,‏ وتحذف منها بما يتفق والتطور
المجتمعي في مختلف الجوانب بما في ذلك التنظيمات والأنشطة والعادات
والتقاليد والقيم والاتجاهات والمعايير والطقوس وانماط السلوك‏,‏ والفنون
والعلوم والآداب وغير ذلك من مكونات الثقافة التي تتصف بالثبات والرسوخ
النسبي‏,‏ أما السياسة‏,‏ فإنها من صنع الحكومات وفق ضوابط وأهداف معينة
تختلف من مجتمع إلي آخر‏,‏ ومن فترة إلي أخري في المجتمع الواحد‏,‏

هذا
التمييز بين الثقافة والسياسة له دلالة شديدة الأهمية خاصة إذا كان الأمر
يتعلق بقوة عظمي كالولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القطب الاوحد بعد
انهيار الاتحاد السوفيتي‏,‏ فبين حين وآخر يشاهد ملايين الناس عبر التلفاز
مظاهرات صاخبة تندد بالولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ ويقوم المتظاهرون بحرق
العلم الأمريكي‏,‏ بل إن السفارات الأمريكية في بعض دول العالم تعرضت
للاعتداء هذه السلوكيات أو الممارسات العدائية كثيرا مانسمع خلالها عبارات
عنيفة مثلالموت لأمريكا‏,‏ فلتذهب أمريكا إلي الحجيم‏,‏ أمريكا وصمة عار
العالم‏,‏ هذه الأقوال الغاضبة وماشابهها إنما هي ضد السياسة الأمريكية
وليس ضد الولايات المتحدة الأمريكية كثقافة وحضارة‏.‏ عندما يتظاهر
الفلسطينيون وينددون بالولايات المتحدة‏,‏ فإنهم في الواقع ينددون
بالسياسة الأمريكية المنحازة لإسرائيل علي حساب الفلسطينيين والعرب‏,‏
وعندما يتظاهر العراقيون ويحرقون العلم الأمريكي‏,‏ فإن هذا تعبير عن رفض
سياسة الاحتلال الأمريكي للعراق وليس رفضا للثقافة الأمريكية‏,‏ ومن
المعروف ان الرفض للسياسة الأمريكية تجاه العراق وفلسطين كان ولايزال
واضحا في الثقافة الأمريكية نفسها‏,

‏ لقد خرج الألوف منالمواطنين
الأمريكيين ليعبروا عن رفضهم للحرب علي العراق‏,‏ وهناك تيارات قوية في
الثقافة الأمريكية تعبر عن الرفض التام للسياسة الأمريكية تجاه الصراع
العربي ـ الإسرائيلي‏,‏ وغيره من الصراعات في العالم‏,‏ هذه التيارات
الثقافية الرافضة للسياسة الأمريكية قد يري البعض إنها ـ وإن كان لها
تأثير‏,‏ إلا أنه ليس التأثير الحاسم أو الفعال الذي يؤثر تأثيرا جوهريا
في مجري السياسة الأمريكية‏,‏ فالتيار الرافض للحرب الأمريكية علي العراق
لم يمنع السياسة الأمريكية من احتلال العراق‏,‏ لكن عدم فاعلية هذه
التيارات لاينفي وجودها‏,‏ ولاينفي نموها واتساعها بدرجة تجعلها قوة
ضاغطة‏,‏ لكن سطوة الإدارة السياسية وامتلاكها القوة العسكرية والاقتصادية
والإعلامية وتبني الأفكار المتطرفة فكر المحافظين الجدد‏,‏ ووجود قوي
نخبوية مؤيدة ـ أصبحت معه السياسة الأمريكية في وضع جامح‏,‏ يرفض ـ ليس
فقط الانصياع للثقافة الداخلية الرافضة للحرب‏,‏ ولكن أيضا يتجاهل الشرعية
الدولية‏,‏ ويتجاهل الرأي العام العالمي الذي عبر عنه ملايين البشر في
ارجاء المعمورة‏,‏ وعلي الرغم من ذلك‏,

‏ فإن التيارات الثقافية
الرافضة لسياسة بوش أثبتت فاعليتها الصارمةفي أول فرصة سانحة‏,‏ لم تكن
هذه الفرصة سوي انتخابات نوفمبر‏2008,‏ حين لقي الحزب الجمهوري والمحافظون
الجديد هزيمة مدوية‏,‏

لقد رفضت الثقافة الأمريكية إدارة بوش‏,‏
كما رفضت سياسة الحزب الجمهوري رغم محاولات رموز الحرب المستميتة لتجميل
تلك السياسة التعيسة‏,‏ وتسامت الثقافة الأمريكية علي العنصرية عندما
أسفرت الانتخابات عن فوز كاسح للسيناتور باراك أوباما مرشح الحزب
الديمقراطي‏,‏ فأصبح الرئيس الأسود في البيت الأبيض‏,‏ ومع التسليم بوجود
اتفاق بين السياسة والثقافة الأمريكية‏,‏ إلا أن ذلك ليس دائما‏,‏ ويعتبر
جنوح السياسة الأمريكية إلي التدخل العسكري ـ الأمريكي من ابرز جوانب
التناقض مع الثقافة الأمريكية‏,‏ فالمطالع للثقافة الأمريكية سوف يلاحظ
أنها تتضمن نزعة عدم التورط في صراعات خارجية مسلحة إلا في حالة الضرورة
القصوي‏,‏ وهذه نزعة أساسا تندرج في نطاق مضاد للتوسعية والإمبريالية‏,‏
وقد تأصلت تلك النزعة منذ السنوات الأولي لاستقلال الولايات المتحدة‏,‏
ففي عام‏1796‏ حذر جورج واشنطن مواطنيه من المنازعات مع الأمم
الأوروبية‏,‏ وحض الأمريكيين علي إنماء ثرواتهم الخاصة في هدوء وسلام‏,‏
وكان لهذه الرسالة تأثير قوي جدا في نفوس المواطنين الأمريكيين‏,‏

لأنها
قابلت قناعات ثقافية متجذرة لديهم‏,‏ وبذلك ارست السياسة مبدأ جوهريا في
الثقافة السياسية وهو عدم اتورط في صراعات خارجية كلما كان ذلك ممكنا‏,‏
وتكرس هذا المبدأ بممارسات أخري أبرزها مبدأ مونرو عام‏1823,‏ كما هو
معروف‏.‏ وعلي الرغم من ذلك فإن المتتبع لتاريخ التدخلات الأمريكية
المسلحة في العديد من مناطق العالم يكشف عن ان السياسة انتهكت هذا
المبدأ‏,‏ خاصة في فترة حكم الرئيس ريجان‏,‏ إن مبدأ الانعزالية في
السياسة الأمريكية لاينفصل عن نزعة ثقافية راسخة تطورت مع الزمن‏,‏ واضطرت
السياسة الأمريكية ان تغير علي نحو ملموس من توجيهاتها‏,‏ وكان ذلك يتم
بمهارة وسرية تضمن عدم الاصطدام بالثقافة الأمريكية الميالة جدا الي
التمسك بمبادئ الآباء المؤسسين‏,‏ وعلي الرغم من تطور النظام الدولي منذ
النصف الثاني من القرن العشرين‏,‏ فلم يكن بوسع السياسة الأمريكية ان
تلتزم بالخيارات ذاتها التي كانت موجودة في عصر جيفرسون مثلا‏,‏ وكان
لامفر من وجود وسائل جديدة للجمع بين سياسة عزلة ناضجة ـ نافعة وسياسة
أكثر ديناميكية علي الصعيد الدولي خاصة في عصر لايمكن فيه حل القضايا
الاقتصادية والسياسية والعسكرية دون الانفتاح علي العالم‏.‏

وتتصف
الثقافة الأمريكية بأنها شديدة التحفظ بشأن توجه السياسة الأمريكية
للحرب‏,‏ بموجب هذا التحفظ يتعين علي السياسيين تقديم الإدلة وبذل جهود
فوق العادة لإقناع المواطن الأمريكي بالتدخل العسكري‏,‏ ولابد ان يكون لدي
هؤلاء السياسيين حقائق دامغة وحجج لاتقبل الشك‏,‏ ففي الحرب الإسبانية
الأمريكية‏,‏ كما في الحربين العالميتين‏,‏ لم تدخل الولايات المتحدة
الحرب إلا بعد أحداث قوية تنطوي علي تهديد ملموس مثل‏:‏ إغراق
الباخرة‏LeMaine‏ في هافانا‏,‏ إغراق الألمان لويتزيانا‏,‏ قيام
اليابانيين بتدمير الأسطول الأمريكي في بيرل هاربيا‏..‏ وعلي الرغم من ان
تلك الأحداث تنطوي علي تهديد حقيقي‏,‏ إلا انه كانت هناك تيارات قوية
رافضة توجيهات السياسة لخوض الحرب‏,‏ لقد علت الأصوات التي ترفض توجيهات
السياسة بالرغم من الممارسات العدائية التي يقوم بها عدو واضح وليس عدوا
غير محدد كما هو الحال في الحرب الذي خاضها بوش ضد الإرهاب‏,‏

وهناك
الكثير من الكتابات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات البحثية
التي تضمنت رصدا تحليليا لسياسة الرئيس جورج دبليو بوش‏,‏ موضحة ان تلك
السياسة تصادمت مع مصالح الولايات المتحدة ومع معطيات الثقافة الأمريكية
الراسخة عندما أعلن بوش عن أنه مبعوث العناية الإلهية للقضاء علي
الإرهاب‏,‏ واقر سياسة الحرب الاستباقية‏,‏ ومحور الشر‏,‏ والتصنيف
التعسفي الساذج للعالم‏(‏ من ليس معنا فهو ضدنا‏)‏ وغير ذلك من مظاهر
التطرف التي اقدم عليها الرئيس بوش تحت تأثير عوامل شخصية وفكر المحافظين
الجدد خاصة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر‏,‏ ففي تلك الظروف ظهر الرئيس
بوش علي العالم وقد سيطرت عليه نشوة عارمة‏,‏ واستبدت به حمأة الزهو الذي
يخرج الشخصية عن طور الوقار‏,‏ لقد شاهد ملايين الناس في العالم تلك
اللقطة التليفزيونية التي يظهر فيها الرئيس بوش علي سطح مدمرة حربية‏,‏
وقد ارتدي الزي العسكري‏,‏ وحمل علي كتفيه صاروخين ويمشي مختالا بنفسه‏,‏
وينطق قائلا أمريكا بصوت عال وملامح غريبة وبأسلوب اشد غرابة‏,‏ لقد قمت
بعرض تلك اللقطة علي أفراد من جنسيات مختلفة بمن فيهم أمريكيون‏,

‏
وجاءت تعليقاتهم معبرة عن الصدمة التي يغلفها السخرية والخجل والستغراب‏,‏
كما كانت تلك اللقطة ـ التي دعمتها لقطة الحذاء الشهيرة ـ مثار تعليقات في
غاية السخرية سواء من جانب بعض الصحف الأمريكية أو من جانب المواطنين
الأمريكيين عبر مواقع الإنترنت كتعبير عن ان الثقافة الأمريكية تتضمن قيما
إنسانية ومعطيات علمية نافعة للناس‏,‏ وترفض كل ممارسات سياسية تتناقض مع
المبادئ الإنسانية أو تجافي العقل والمنطق بصرف النظر عما تتضمنه الثقافة
الأمريكية من معطيات قد لاتتناسب مع معايير ثقافات أخري‏.‏