المسئولية الاجتماعية بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

من طرف سعاد حسنى الإثنين فبراير 23, 2009 1:06 pm

المسئولية الاجتماعية
بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

وضع
ملك كشمير شرطا ملزما لذاته‏,‏ ذلك ألا يذوق طعاما حتي يصيب كل مواطن
شبعا‏.‏ هذا الشرط يعني أن حقوق المواطنة الاجتماعية للمواطن علي دولته
ومجتمعه‏,‏ ترتبط بما يوفرانه له من حق العمل‏,‏ والتملك‏,‏ والتعلم‏,‏
استنادا إلي ضمانة جدارة الموارد الذاتية‏,‏ وفعالية مصادر الإنتاج في
استيلاء فرص تستوفي استحقاقات المواطنين‏,‏ وصحيح أن الشرط الإرادي
للملك‏,‏ يجسد قيمة يعتنقها الملك بحكم مسئوليته‏,‏ محروسة في تحقيقها
بحرصه وقناعته‏,‏ كما تبدي ذلك في دلالة شرطه الذي رهن اختلال تحقيقها
بمحاسبة ذاتية بلغت حد العقاب الذاتي‏.‏ لكن الصحيح كذلك أن هذا الشرط
يستهدف نشر اعتناق هذه القيمة عن طريق تغيير البنية الثقافية لمجتمعه‏,‏
معتمدا علي آليتين مؤثرتين‏,‏ أولاهما‏:‏ المحاكاة له‏,‏ انطلاقا من أن
الملك يعد مبدأ للقياس‏,‏ إذ سلطاته تمثل جسرا تنتقل عبره القيمة ـ دون
عنف ـ إلي المجتمع‏,‏ وثانيتهما‏:‏ التعلم الاجتماعي‏,‏ حيث بمرور الزمن
يجري استيعاب القيمة من خلال ممارستها‏,‏ وما تنتجه من تعزيز إيجابي
للعلاقات الاجتماعية‏,‏ عندئذ ينتشر تأثيرها‏,‏

وتصبح قيمة ذات
قناعة جماعية حاكمة للمجتمع‏,‏ بوصفها خيارا حرا‏,‏ يغدو كل فرد في ظل
غيابها‏,‏ عرضة للمساءلة والمحاسبة‏,‏ من قبل ذاته عينها‏,‏ وبالطبع من
قبل مرجعيات المجتمع‏,‏ إذ إن حقوق المواطنة الاجتماعية تستوجب بنية مجتمع
متكاتف متكافل‏,‏ وفق توافق جماعي ضد جموح الأرباح المتكدسة أموالا
وثروات‏,‏ والمتغاضية ـ في الوقت نفسه ـ عن الاستثمار بالمشاركة في
المسئولية الاجتماعية‏,‏ والممتنعة بذلك عن التنمية الذاتية لمجتمعها‏,‏
حجبا لكفاءات تمكن المجتمع من التجدد‏,‏ وتوجه المصير الاجتماعي نحو عدالة
الاستحقاق‏.‏

لا خلاف في أن من أهم معايير صلاح المجتمع البشري
العادل‏,‏ أنه لا يغلق باب الأمل أمام حرية النجاح الشخصي لأفراده
ومؤسساته‏,‏ لكنه أيضا لا يقر‏,‏ ولا يتواضع علي استبقاء الفقر‏,‏ ودوام
توجعات الظلم الاجتماعي لغياب استحقاقات الكثرة من أفراده‏,‏ لذا فإن
المسئولية الاجتماعية لا تعرف التغاضي أو التجاهل‏,‏ ولا يسهم فيها بالعنف
والقسر‏,‏ وإنما تستولدها ثقافة مجتمعية ضامنة للعدل استمرارا لبقاء
المجتمع‏.‏ واللافت للنظر أن الملك استن قانونا يقضي بعدم ممارسة العنف
علي أي انسان في بلده‏,‏ مهما كانت أشكال هذا العنف ودرجاته وإجراءاته‏,‏
حيث الإنسان لا يكون كائنا إلا بجوهره المتجسد في استحقاقه حرية خياراته
واحترامها‏,‏ ولا تكون مواجهتها إلا بالمحاجة والنقاش والتداول‏.‏

أبلغ
الملك يوما‏,‏ أن فتاة تتجول متسولة بغير طعام لأسباب غامضة‏,‏ وقد بذلت
محاولات لحملها علي تناول الطعام باءت جميعها بالفشل‏,‏ ولا أحد يعرف سبب
امتناعها‏.‏ لاشك في أن هذه الواقعة جسدت أن قيمة حقوق المواطنة
الاجتماعية قد وضعت في مجري الواقع اختبارا‏.‏ تري هل سوف يهتدي الواقع
بالقيمة‏,‏ وينفذ الملك شرطه الذاتي ؟ بالفعل رفض الملك أن يتناول
غذاءه‏,‏ وظل بلا طعام حتي عاد رئيس الوزراء‏,‏ ليحكي ماجري في لقائه
بالفتاة التي مازالت عند رفضها‏,‏ مع أن الطعام لا يعوزها‏,‏ حيث قدم
إليها‏,‏ لكنها ترفضه‏,‏ وذلك ما يعني أنها طوعا وبإرادتها ترفض
استحقاقها‏,‏ ثم كشف عن لغزها الذي يمثل شذوذا وتجاوزا لكل ما هو
إنساني‏,‏ حيث تشترط أن يكون طعامها لحما آدميا‏.‏ شاع مطلبها في
البلاد‏,‏ فخرجت المظاهرات الشعبية‏,‏ وقصدت القصر تعلن رفضها لموقفها غير
الإنساني‏,‏ ثم اتجهت جموع الناس إلي مكانها للإطاحة بها‏,‏ لكن الملك
أصدر أمرا بعدم المساس بها‏.‏ حاول المحيطون بالملك الكشف عن مصاعب تحقيق
رغبة غير مباحة إنسانيا لامرأة تجافي في مشاعرها النبل الإنساني في
تطوره‏,‏

ومن جانب آخر مخالفة مطلبها لمرجعية القانون الذي يحكم
البلاد وتلتزم به‏,‏ ويمنع ممارسة العنف والقتل‏,‏ والذي بدون خرقه لن
يتحقق للفتاة طلبها‏,‏ غير أن الملك ذكرهم بمرجعية استحقاقها للطعام
كمواطنة‏,‏ باعتبار هذا الاستحقاق مسئولية تستوجب أيضا الالتزام بها‏,‏
وراح رئيس الكهنة يصور المشكلة بأنها تمثل تعارضا بين شرط الملك الذاتي‏,‏
وقانون البلاد الذي يحرم العنف والقتل‏,‏ متغافلا عن أن شرط الملك إن هو
إلا صيحة ضمير منصف‏,‏ استهدف استئصال الإجحاف بالحقوق الاجتماعية
للمواطنة‏,‏ وليس شرطا شخصيا يحقق مآرب خاصة خافية‏,‏ استمع الملك إلي
الآراء المتباينة‏,‏ ويبدو أنه خشي أن بعض أطراف الواقع قد تحاول توظيف
المشكلة القائمة‏,‏ لاستلاب قيمة حقوق المواطنة الاجتماعية‏,‏ والتشهير
بإفلاسها‏,‏ فأعلن الملك قراره بأنه سيعطي الفتاة لحمه طعاما لها‏,‏
بتقديم بعض من أطرافه وفاء لاستحقاقها‏.‏ عارض الجميع موقف الملك‏,‏
وأعلنوا تقديم أجسادهم بديلا لجسد الملك‏.‏ رفض الملك انتهاك قانون اللا
عنف ليأخذ لحم الآخرين بديلا له‏,‏ وخرج إلي الفتاة ليناقشها ويستقرئ
سرها‏,‏ وتبعه كل من في القصر وجماهير شعبه‏.‏

في مشهد المواجهة
بين الملك والفتاة‏,‏ وقد التفت حولهما الحاشية وجموع الجماهير الغاضبة‏,‏
حاول الملك في نقاشه أن يفهم الفتاة أن ثمة تنازعا بين قانون البلاد
ومطلبها‏,‏ فأجابته أنها لا تعرف إلا قوانين ذاتها فقط‏,‏ وأن شرطه يحظر
عليه أن يأكل حتي ينال مواطنوه نصيبا من الطعام‏,‏ ويبدو أن الملك أدرك
أنها تمارس الحرية السلبية التي تغالي في هوس الفرد بذاته وحدها‏,‏ وأنه
كي يهتدي الواقع بالقيمة‏,‏ ويستضيء بها‏,‏ لابد من ممارسة التضحية التي
تخرج الفرد من ذاته‏,‏ اضطلاعا بمسئوليته العامة تجاه مجتمعه‏,‏ لذا فقد
أشهر الملك سيفه‏,‏ عارضا علي الفتاة أن تختار أيا من مواقع جسده طعاما
لها‏,‏ عندئذ أعلنت الفتاة أنها لا تحس بجوعها‏,‏ لقد ذهب عنها جوعها
عندما استشعرت أن إرادة الحياة لدي الملك‏,‏ التي تتفجر في اللحم وتحت
اللحم منه‏,‏ قد تخلت عن دفاعها عن غريزة بقائه‏,‏ بل أنه أيضا رفض صيحات
الجموع من حولهه لافتدائه‏,‏ إذ تحولت إرادة البقاء لديه إلي إرادة اقتدار
علي التضحية من أجل قيمة لغيره نذر نفسه لها‏.‏

إن الكاتب والسياسي
الهندي سيت جوفنيد داس‏(1896‏ ـ‏1974),‏ المعروف بغزارة إنتاجه وتنوعه‏,‏
نراه في مسرحيته الملك والفتاة المتسولة بدلالاتها الموحية‏,‏ يؤكد أن
إدارة الشأن العام للمجتمع‏,‏ لا تتم بالعنف الذي يسمم مبدأ التعايش‏,‏
ويفتت وحدة المجتمع‏,‏ نتيجة ممارسة الحرية السلبية التي تغالي في هوس
الإفراط في انهمام الفرد بذاته وغرائزه ومكاسبه‏,‏ حتي يصبح مثقلا بذاته
وحدها‏,‏ فينفصل بذلك عن هموم مجتمعه ويجهله‏,‏ ومن ثم لا يقيم اعتبارا
للانتماء العام‏,‏ عماء‏,‏ وهروبا من الالتزام بمبدأ المسئولية
الاجتماعية‏,‏ حيث يخبو لديه حس الضمير العام الذي يحرك رؤيتنا للعالم
ولمن حولنا‏,‏ وعندئذ يتلاشي معني التضحية بما يملكه‏.‏ كما يؤكد الكاتب
أيضا أن الفرد لا يتحرر من سجن ذاته إلا بممارسة الحرية الإيجابية‏,‏ التي
تجمع الفرد بغيره عبر صيغ الانخراط والتعايش في مجتمع مشترك‏,‏ يتحمل فيه
الفرد مسئوليته تجاه ذاته‏,‏ كما يتحمل أيضا مسئوليته الاجتماعية تجاه
مجتمعه‏,‏ مقدرا استحقاقات أفراده التي تؤسسها مشروعية حقوق المواطنة‏,‏
بوصفها قيمة يجب علي الواقع أن يهتدي بها‏,‏ وإن تطلبت التضحية ببعض ما
يمتلكه‏,‏ وهو الأمر الذي تعززه ثقافة المسئولية الاجتماعية‏.‏

وفي
ضوء تعزيز ثقافة المسئولية الاجتماعية‏,‏ تبنت وزارة الاستثمار مبدأ
المسئولية الاجتماعية للشركات التابعة لها‏,‏ وهو ما يعد مراجعة للفكرة
النمطية عن الاستثمار والأرباح‏,‏ وجموح يكدسها دون استثمار‏,‏ وذلك
بالمشاركة في حماية المجتمع وتطويره‏,‏ وتنميته المستدامة‏,‏ بتمويل
مشروعات الشأن العام من أرباح هذه الشركات‏,‏ إيمانا بأن الاقتصاد لابد أن
يرتكز علي سلوك اجتماعي وأخلاقي‏,‏ بوصف ذلك مكونا أساسيا في مسئوليات تلك
الشركات تجاه مجتمعها‏,‏ متجليا في المساندة الطوعية لبرامج المسئولية
الاجتماعية‏,‏ بالإسهام في مجالات التعليم‏,‏ والثقافة‏,‏ والبيئة‏,‏
والتنمية البشرية‏,‏ وإعادة التأهيل إثراء للقيمة البشرية‏,‏ ومكافحة
الفقر تحسينا لشروط الحياة‏.‏ ولاشك أن صندوق المسئولية الاجتماعية
للشركات‏,‏ الذي أنشأته وزارة الاستثمار‏,‏ يعد رهانا للإمكان‏,‏ وفهم
الواقع‏,‏ وتشخيص مشكلاته‏,‏ وهو ما يخلق حيوية مجتمعية تنتج الثروات
والخدمات‏,‏ وتبتكر صيغها ونماذجها الملائمة للمجتمع‏.‏ والأمل كبير في أن
يحفز توجه وزارة الاستثمار رجال الأعمال إلي ضخ نسبة من أرباحهم‏,‏ تضحية
وإسهاما في أهداف مرغوبة من الجميع‏,‏ إدراكا أن المسئولية الاجتماعية‏,‏
هي مسئولية متبادلة يحملها الجميع‏.‏