الأصـوليــة الفكريــة بقلم : جابر عصفور

من طرف سعاد حسنى الإثنين فبراير 23, 2009 1:07 pm

الأصـوليــة الفكريــة
بقلم : جابر عصفور

ليست
الأصولية‏(‏ أو الأصولي بالتبعية‏)‏ صفة دينية ترادف التعصب والتطرف
وتكفير المخالف وتحريم الاختلاف‏,‏ ومن ثم كراهية الاجتهاد والابتداع‏,‏
مقابل الإعلاء من شأن الاتباع والنقل والتقليد‏,‏ وإنما هي حال فكري‏,‏
يجاوز الوضع الديني والفكر الملازم له‏,‏ أو المنتسب إليه‏,‏ سلبا
وإيجابا‏,‏ ويشمل كل موقف فكري ديني أو مدني‏,‏ سياسي أو اجتماعي أو حتي
إبداعي‏,‏ فالأصولية في السياق الثقافي الأوسع الذي أفهمها فيه‏,‏ هي
التقوقع في نسق فكري مغلق‏,‏ ينظر صاحبه إلي مكوناته بوصفها ثوابت مفهومية
لا سبيل إلي تغييرها أو تغيرها‏,‏ فهي ثوابت مطلقة تتأبي علي تحولات
الزمان والمكان وترفضها ولا تعترف بها أو بآثارها علي وجودها المكتفي
بنفسه‏,‏ في حال جمود وتكلس وتصلب‏,‏

يعدي المؤمن به‏,‏ والملتزم
بتعاليمه‏,‏ وذلك بالقدر الذي يسقط المؤمن بهذا النسق صفات جموده الفكري
وتكلسه العقلي وتخلفه الفكري علي النسق‏,‏ فيزيده جمودا علي جموده الذاتي
وتحجره الملازم والنتيجة هي رد تشكل النسق إلي زمن متخيل‏,‏ بالغ الإيجاب
والنقاء‏,‏ كأنه اللحظة النورانية لتشكل النسق كاملا مكتملا‏,‏ لا حاجة به
إلي الإضافة أو التعديل أو التغيير‏,‏ فحضوره الأكمل متحقق منذ بداية
تشكله‏,‏ كأنه الآيات المحكمات التي لا يأتيها الباطل من فوقها أو
تحتها‏,‏ ولا تقبل الاجتهاد في التأويل‏,‏ فمعناها لازم لفظها‏,‏ ولفظها
مباشر يتجه إلي غرض ثابت محدد‏,‏ واحد في معناه ودلالته ومغزاه

والعلاقة
بين هذا النسق المغلق ومن يؤمن به هي علاقة شبه دينية‏,‏ من حيث ما تفترضه
من تسليم وإذعان وتصديق لا يعتوره الشك‏,‏ ولا تناوشه الهواجس‏,‏ ولا يقبل
قط أن يوضع موضع المساءلة والأصولي هو الفرد الحامل لهذا النسق‏,‏ المتبني
له‏,‏ والمدافع عنه‏,‏ والذي يكتسب صفاته‏,‏ وذلك علي نحو يجعل منه النائب
الأوحد عن النسق‏,‏ والحامل للحقيقة المطلقة التي يحتكرها النسق ونائبه‏(‏
أو فاعله الاجتماعي‏,‏ الثقافي‏,‏ السياسي‏)‏ علي سبيل التضمن واللزوم‏,‏
فالأصولي هو الذي تتجسد في أفعاله وممارساته وأقواله الحقيقة المطلقة التي
لا يملكها سواه فيما يتصور‏,‏ وذلك في يقين يوهمه أنه الأعلي وغيره
الأدني‏,‏ فلا يقبل خلافا أو اختلافا حول امتلاكه الحقيقة‏,‏ فقوله
الحق‏,‏ وقول المختلف عنه باطل يضع صاحبه موضع المستحق للاستئصال المعنوي
أو المادي ولذلك يتسم الخطاب الأصولي‏(‏ أو خطاب الأصولي‏)‏ باليقينية
والجزم والحسم‏,‏ ولا يخلو من لهجة أمرية‏,‏ ونواه لفظية‏,‏ ولوازم
إنشائية بلاغية يعرف بها وتصبح علامة عليه‏,‏ خصوصا في تكرار أفعل التفضيل
والمقارنات التخييلية التي تعلي من قدر الأنا وتدني من شأن الآخر الذي ليس
أمامه سوي القبول والتسليم بمضمون الخطاب وإلا فالويلات والثبور وعظائم
الأمور

وأعدي أعداء الفكر الأصولي والمثقف الأصولي خمسة أولها
الجديد الذي يستريب فيه الأصولي ويتوجس منه توجسه من الغريب والمغاير‏,‏
فالجديد وضع ينطوي علي وعد التغيير الذي يهدد الثبات والسكون والجمود التي
هي أقرب الصفات إلي الروح الأصولي ولذلك فكل تجديد يقاومه الوضع الأصولي
بأسلحة السكون والثبات‏,‏ ورمي كل جديد بأنه بدعة‏,‏ وكل بدعة إلي
ضلالة‏,‏ وكل ضلالة في النار‏,‏ سواء بالمعني الديني أو غير الديني
والعقلانية هي العدو الثاني للأصولية‏,‏ لأنها تعني الاحتكام إلي العقل
الذي يؤمن بالنسبية بوصفها اللزوم المنطقي لطبيعته البشرية القابلة
للخطأ‏,‏ ما ظلت تحتاج إلي المراجعة دائما‏,‏ ومن ثم الشك ووضع كل فكرة أو
مبدأ أو نظام موضع المساءلة وتزداد الأصولية كراهية للعقل لأنها تراه
مبنيا علي التسليم بمبدأ التغير تسليمه بالنسبية‏,‏ وعلي التغير بدلا من
الجمود‏,‏ والحركة بدلا من الثبات أما العدو الثالث فهو التجريب‏,‏ لأن
مبدأ التجريب هو عدم الرضا بما هو كائن‏,‏ والانفتاح المغامر علي كل أفق
مفتوح‏,‏ وكراهة المدارات المغلقة‏,‏

والانطلاق بالطاقات الخلاقة
للعقل والروح والوجدان إلي عوالم تظل في حاجة إلي المعرفة‏,‏ والكشف‏,‏
والاكتشاف‏,‏ والسعي الدائم إلي كل ما يغري بالبحث عنه‏,‏ حتي دون معرفة
تفصيلية بخرائطه المعرفية أما العدو الأخير فهو استشراف المستقبل‏,‏
والقياس علي احتمالاته التي تظل في مدي الإمكان البشري‏,‏ علي طريق التطور
والتقدم اللذين لا حدود لنتائجهما الخلاقة الواعدة للمستقبل البشري كله
والكراهية الأصولية للتفكير المستقبلي للبشر مفهومة‏,‏ فالمستقبل محدد من
أول الزمان في الأصولية الدينية‏,‏ وهو عود علي بدء‏,‏ ورجوع إلي عصر
ذهبي‏,‏ أصبح إطارا مرجعيا‏(‏ متخيلا‏)‏ لهذه الأصولية أما المستقبل الذي
يصنعه البشر علي أعينهم‏,‏ في المدي الصاعد للتاريخ فهو معاد للأصولية
الدينية التي تنبني علي تصور دائري قدري لتأريخ ليس من صنع البشر وطبيعي‏,‏

والأمر
كذلك‏,‏ أن لا تفكر الأصولية عموما في المستقبل‏,‏ ولا تقيس علي إمكاناته
واحتمالاته وطبيعي أكثر أن تمضي الثقافة الأصولية إلي الأمام وعيناها في
قفاها‏,‏ فبنيتها ملازمة لفكرة العود علي ما قبل‏,‏ والقياس علي إطار
مرجعي سابق‏,‏ نصا أو فعلا أو حضورا أو دولة أو شخصا أو مبادئ سابقة في
الوجود والرتبة‏,‏ وإلا ما كان هناك معني للقياس عليها ولذلك فالأصولية
بوجه عام ضد التفكير المستقبلي‏,‏ تكرهه كراهيتها للتفكير العلمي الذي
يكتمل بالتجريب والإيمان بالنسبية وضرورة التراكم الذي يتحول إلي تغيرات
كيفية قرينة الحركة إلي الأمام‏,‏ بأعين مفتوحة علي الآتي الممكن والمحتمل
والواعد

هذا التوصيف ينطبق علي المتطرف والمتعصب الديني‏,‏ وينطبق
بالقدر نفسه علي المتعصب الماركسي وعلي مثيله القومي والناصري والبعثي‏,‏
وعلي كل فكر يتحول إلي دوجما أو مدار مغلق‏,‏ بحكم تكوينه الذاتي أو بحكم
الممارسين له‏,‏ أو الاثنين معا ولذلك فما أسهل أن ينقلب الأصولي الماركسي
إلي أصولي ديني‏,‏ كما شهدنا في بعض الحالات التي لا أريد تسمية
أصحابها‏,‏ فهي لا تخفي علي فطنة القراء الذين أخاطبهم والسبب في ذلك أن
المبادئ العقلية والآليات الفكرية والأبنية الصورية واحدة في مثل هذه
الحالات‏,‏ ترد النقيض علي نقيضه‏,‏ خصوصا عندما ينطوي الإخوة الأعداء علي
المبادئ والآليات والأبنية الكامنة وراء اختلاف الأزياء‏(‏ ذهنية العسكري
الجامد‏=‏ عقل رجل الدين التقليدي‏.‏ الأصولي السياسي والفكري‏=‏ الأصولي
الديني والمدني‏).‏ ولا أستبعد من هذه الدوائر الأصولية‏,‏ المتباعدة
ظاهريا والمتطابقة جوهريا‏,‏ الأدباء والمثقفين الذين لابد أن يعرفهم
القارئ من موقفهم من الجديد‏,‏ والتجريب‏,‏ والثورة الدائمة علي كل الآباء
المتسلطين بوعي أو دون وعي‏.‏