فن التوقف عن خداع النفس بقلم : منير عامر

من طرف تامر الإثنين فبراير 23, 2009 1:09 pm

فن التوقف عن خداع النفس
بقلم : منير عامر

أي
منا في أي يوم أو أي مرحلة من مراحل العمر يمكن أن يقع في بئر خداع النفس
حين يتوهم أن أيامه هي أفضل أيام الحياة‏,‏ وأن زمانه هو أفضل مما هو قادم
من الأزمنة‏,‏ ولابد أن نمتلك من الذكاء درجة تتضمن تدفق التواصل بين
الأجيال في نهر الحياة‏.‏

سمعت تلك الكلمات علي قمة جبل كاميوكا
الذي يتوسط مدينة كيوتو العاصمة الثقافية لليابان‏.‏ وكانت المتحدثة بها
هي زعيمة طائفة بوذية اسمها الأموتو‏,‏ وهي طائفة تقدس المرأة‏,‏ لأن حياة
العالم دون امرأة هي الجحيم وحياة أي امرأة بدون رجل ـ ولو في الخيال ــ
هي قمة العذاب‏.‏

كنت مندهشا من عدد رجال الأعمال الذين يستوعبون
عبر آذانهم‏,‏ ماتتدفق بها الحكمة الدائمة التجدد علي لسان هذه السيدة‏,‏
وفي عينيها سؤال لاتنطقه‏,‏ ولكنه يصدر من ضميرها إلي ضمير كل واحد
فيهم‏,‏ السؤال هو مامدي ما تقدمه من ثروتك‏...‏ عن مدي رعاية كل منهم
للأجيال الشابة؟ فالجميع عليه أن يترجم إيمانه إلي عمل والعمل المطلوب
طوال الوقت هو كيفية تدفق الرعاية من الكبار للأجيال الشابة فليس من السهل
علي بلد أن يعيش دون مستقبله ولايوجد معني لكلمة المستقبل في قلوب الجميع
سوي الشباب الموهوب‏,‏

والمباراة المستمرة بين الجميع هي قدرة أي
منهم علي تخصيص ميزانيات كبيرة من الأرباح للعناية بالمتفوقين في المدارس
الإعدادية والثانوية كي يقتحموا المعاهد والجامعات التكنولوجية باحساس
القدرة والرغبة علي الإضافة‏.‏ فالكل يعلم في اليابان أن الجامعة ليست هي
الباب المزيف الذي يمكن ان تحصل منه كشاب علي تقدير غير حقيقي للنفس‏,‏
ولكنها بيت الخبرة الذي تكتسب فيه معرفة فنون التفكير والتطبيق في مجالات
العلوم المختلفة علمية أو أدبية‏,‏ وسمعت مايربط بين شعر شكسبير والهندسة
المعمارية‏,‏ وبين قاعدة أرشميدس الذي اكتشف قانون الطفو‏,‏ وبين صناعة
سفن الفضاء‏,‏ وكيف أن كل ذلك جاء من حسن توظيف الخيال والدق علي أبواب
التفكير كي يتحول الخيال إلي وقائع تماما كما تمكن العلم من تحويل
الترانزستور إلي جهاز إذاعة وتليفزيون‏,‏ ثم إلي شريحة التلفون المحمول‏.‏

اكتشفت
أن العديد من رجال الأعمال هناك لاينتظر دورة رأس المال من أجل الربح
النقدي فقط‏,‏ ولكن لابد أن يتيح جزءا من الربح للصرف علي إعداد العديد من
الأجيال الشابة كي يجدوا مكانا ضمن العقول الكبيرة‏,‏ لتتواصل الأجيال
القادمة مع الأجيال التي سبقت‏.‏

سمعت كل ذلك في الموسم التقليدي
الذي تستقبل فيه اليابان أعدادا من الزوار من كل أنحاء الكون‏,‏ وهي
المناسبة السنوية لسقوط قنبلتي هوروشيما ونجازاكي حيث شاءت الطوائف
الدينية مع الحكومة اليابانية تحويل تلك المناسبة إلي فرصة لصيانة الحياة
علي الأرض بدلا من صناعة الدمار الذي تجسد في القنبلتين‏.‏

وكان
السؤال الذي سمعنا من زعيمة طائفة الأموتو في أثناء زيارتنا لقمة جبل
كاميوكا عن شباب كل بلد ومدي رعاية الأجيال السابقة للأجيال القادمة لانهم
يؤمنون أنه لاسلام في الكون‏,‏ دون أن تساهم الأجيال الشابة في تطوير
فاعليات الحياة‏.‏

لن أنسي أبدا ماسمعته من رجل دين إفريقي‏,‏ وهو
يروي أسطورة قديمة توضح امتزاج الأجيال معا‏,‏ فحكي كيف أن القرود ظلت
قرودا لسبب غاية في البساطة هو عجزها عن تواصل الأجيال معا‏,‏ ويقال إن
القرود الشابة زهقت ذات نهار من فرط ازدحام آذانهم بتعليمات الكبار دون أن
يقدم الكبار لهم فرصة التدريب أو المعرفة لذلك قررت القرود الشابة أن تأخذ
القوارب التي صنعها الكبار لترحل بعيدا إلي غابة ليس فيها قرود كبار‏.‏
وما إن وصلوا إلي تلك الغابة‏,‏ حتي أقاموا حياتهم الجديدة‏,‏ ولكنهم
أنجبوا قرودا صغيرة‏,‏ وازدحمت آذان القرود الصغيرة بتعاليم القرود التي
كبرت بعد أن كانت صغيرة قبل ذلك‏,‏ وهناك قررت القرود الشابة أن تأخذ
القوارب التي صنعها الكبار لترحل بعيدا إلي غابة ليس فيها قرود كبار‏.‏
وما إن وصلوا إلي تلك الغابة‏,‏ حتي أقاموا حياتهم الجديدة‏,‏ ولكنهم
أنجبوا قرودا صغيرة‏,‏ وازدحمت آذان القرود الصغيرة بتعاليم القرود التي
كبرت بعد أن كانت صغيرة قبل ذلك‏,‏ وهنا قررت القرود الصغيرة أن تأخذ
القوارب مرة أخري بحثا عن غابة جديدة ليس فيها قرود‏.‏ وهكذا ظلت القرود
قرودا‏,‏ لأنها بلا تاريخ ولا تتلقي خبرات سابقة‏,‏ كما أن الأجيال
السابقة لاتمنح خبراتها للقرود الجديدة بطريقة مقبولة‏.‏

أخذت أضحك علي مارواه رجل الدين الإفريقي والذي أطلت من حكاياته ضرورة امتزاج الأجيال معا لصناعة مستقبل مختلف‏.‏

وبقيت
من أيام زيارتي لليابان حكمة لا أنساها أبدا‏,‏ وهي ما أوصت به زعيمة
طائفة الأموتو‏,‏ بأن تتوقف الأجيال الكبيرة في العمر عن التحسر علي مافات
من أيام قديمة‏,‏ لأن الشباب سيهضم كل خبرات الكبار وسيقوم بتطويرها في
حالة اتاحة الفرصة له كي يفعل ذلك‏.‏

وأصرت السيدة أن تنبه الجميع
بأن توقف الكبار عن خداع أنفسهم بأن أيامهم كانت أفضل‏,‏ هو الباب الملكي
كي تثق الأجيال الشابة في مستقبلها‏.‏ وأضافت‏:‏ أن بعضا من الكبار
يحترفون بيع اليأس من المسقبل للأجيال الشابة‏.‏

وحين قال أحدهم‏:‏
إن الأجيال الشابة ترفض كثيرا سماع أو الاستفادة من خبرة الأكبر والأكثر
نضجا تساءلت زعيمة الطائفة بالأدب الياباني المشهور‏:‏ هل راقبت الطريقة
التي تقدم بها الخبرة للأجيال الشابة؟

ولم تنتظر إجابة‏,‏ لأن من نطق بتلك الجملة عرف أن أسلوبه في قبول القادمين إلي المستقبل يحتاج إلي تعديل‏.‏

وعلي
قمة هذا الجبل الغريب تذكرت ماعلمه لي الراحل الكبير استاذي الشاعرصلاح
عبد الصبور حين ترجم مسرحية أبسن البناء العظيم والتي يقول فيها المعماري
الكبير‏:‏ لابد أن استعد لاستقبال من سيقول لي‏:‏ إفسح لي الطريق أنا
الجيل الجديد‏.‏

اكتب تلك السطور وأنا استعد للحضور كمراقب لمؤتمر
الشباب الذي ينعقد بعد ساعات في مكتبة الإسكندرية‏,‏ ويتلوه مؤتمر الإصلاح
الذي ينعقد دوريا منذ سنوات قليلة‏,‏ وفي قلبي سؤال‏:‏ تري هل منا من
يستعد في أي موقع كي يستقبل الجيل الجديد‏,‏ أم أن الكثير منا أدمن خديعة
النفس بأن أيامه الماضية هي أفضل الأيام وأن خبراته لن تدانيها أي خبرة
قادمة؟