إعــلام الفقــراء بقلم : د‏.‏ حمدي حسن أبوالعينين

من طرف هايدى الثلاثاء فبراير 24, 2009 11:31 am

إعــلام الفقــراء
بقلم : د‏.‏ حمدي حسن أبوالعينين

لست
أجد من أتوجه إليه بحديثي هذا سوي السيدة سوزان مبارك لسببين‏:‏ أولهما
تجربتها الاجتماعية في ريف مصر وحضرها وجهدها في مكافحة ثقافة الفقر
والاهتمام بالفئات محدودة الدخل‏.‏ وثانيهما أننا في مصر مثل بلاد الشرق
نهتم بالقائل أكثر مما نهتم بما يقول ولذلك كانت أقدر من غيرها علي وضع
الكثير من المبادرات الجادة موضع التنفيذ الفعلي‏.‏

السيدة سوزان
مبارك وحدها يمكن أن تضع تلك الفئات التي عملت من أجلها طويلا في دائرة
أهتمام إعلامي مختلف تماما عما يحدث حاليا‏.‏ فالفقر ليس في كل الأحوال
مستويات متدنية من الدخل المالي‏.‏ وحتي لو نجحنا في زيادة تلك الدخول
وتجاوزنا بها حدود الفقر التي وضعتها الأمم المتحدة فلن يختفي الفقر
بأبعاده النفسية والاجتماعية‏.‏ الفقر في كثير من جوانبه حالة من العوز أو
العجز النفسي والاجتماعي ونقص شديد في المهارات الازمة لاستغلال الموارد
المتاحة علي نحو يوفر من الحياة أفضل‏.‏ والفقر بهذا المعني أكثر أنتشارا
من الفقر الاقتصادي‏.‏

الكثير من الأسر المصرية التي تعيش فوق خط
الفقر مباشرة مثل غيرها ممن تعيش دون هذا الخط تواجه العديد من المشكلات
في التغذية الصحية والعلاقات الاجتماعية الصحيحة والمزاج النفسي المتوازن
والقدرة علي الحراك الاجتماعي والشك في المستقبل‏.‏ خلال العقدين الماضيين
قفزت قطاعات فوق خط الفقر بقليل ولكنها لاتزال تعاني مشكلات الفقراء
بالأمية النفسية السائدة وإنخفاض مستويات الوعي‏.‏ هؤلاء وهؤلاء بحاجة إلي
من يأخذ بيدهم إلي طريق ينتهي بهم في كل الحالات إلي مستوي أفضل من
الحياة‏.‏

فقراء الدخل والوعي معا في بلادنا تركوا لمستويات متدنية
من التعليم أو بلا تعليم علي الإطلاق ووقعوا فريسة لتجارة الترفيه الرخيص
في السينما والغناء والدراما والمقاهي التي خدرت إحساسهم بالواقع وجردتهم
من أي قدرة علي رفض الفقر أو تغييره بقدراتهم الذاتية أو حتي بمساعدة
غيرهم‏.‏ وليس أقدر من وسائل الإعلام علي انتشال هؤلاء وهؤلاء من فقر
الوعي الذي ينتهي في أغلب الأحيان إلي فقر المال‏.‏

في سنوات
السبعينيات وأثناء المناقشات الدولية حول العلاقة بين الحكومة ووسائل
الإعلام‏,‏ كان الاهتمام بالفقراء وتنمية جوانب حياتهم المختلفة حجة قوية
لدي المدافعين عن استمرار نمط الملكية الحكومية أو العامة لوسائل
الإعلام‏..‏ ولكن تجربة العقود الثلاثة الماضية أثبتت أن المحتوي الإعلامي
في مختلف أنحاء العالم سواء صدر عن مؤسسات حكومية أو خاصة إنما يخضع
لاحتياجات وأذواق واهتمامات الطبقات غير الفقيرة‏.‏

والنتيجة أن
احتياجات الفقراء أهملت وزادت الفجوة المعرفية في المجتمعات في وقت أصبح
ينظر فيه إلي المعرفة علي أنها أحد الموارد التي ينبغي أن تحظي بتقسيم
عادل في المجتمع‏.‏ يقول أحد كبار الاقتصاديين الأمريكيين إن العامل المهم
في مواجهة الفقر هو النظر إلي نصيب الفقراء من المعلومات وليس من الموارد
المادية فقط‏,‏ فالعامل الذي يفصل بين الطبقات الاقتصادية في الولايات
المتحدة هو الوصول إلي المعلومات‏.‏

ومنذ ثلاثة عقود بدأ التحذير
من انتشار الفجوة المعرفية داخل المجتمعات حيث تمتلك الأقلية كافة مصادر
المعرفة فيما تعاني الأغلبية ندرة في هذه المصادر‏.‏ وفي ظل اقتصاد
المعلومات فإن المعرفة تتحول إلي ثروة‏.‏ وفي الولايات المتحدة يحذر
الاقتصاديون من أنه إذا استمر الاختلال في توزيع الدخل حيث يحصل الخمس
الأول من ذوي الدخول العليا علي‏60%‏ من الدخل العام الأمريكي فيما يحصل
الخمس الأخير وهم الأشد فقرا علي‏2%‏ فقط‏.‏

ومهما تكن التقديرات
بشأن عدد الفقراء في مصر‏,‏ فإنهم يمثلون قطاعا كبيرا منالمجتمع المصري
لايلقي أدني اهتمام حقيقي من وسائل الإعلام‏.‏

والاهتمام الإعلامي
الذي أعنيه لاينصرف إلي الحديث عن مشاكلهم أو الأعباء التي يتحملونها فما
أكثر المتاجرين بالآم الفقراء في بلادنا والعاملين علي تسييس مشكلاتهم‏.‏
وإنما أعني الإعلام الذي يساعدهم علي مواجهة الفقر ونبذ ثقافته وتخفيف
معاناته والتقليل من آثاره الاجتماعية والنفسية‏.‏

اهتم الإعلام
المصري بالفقراء في برامج التليفزيون وأفلام السينما من باب تقديم نماذج
من البشر تنطوي علي قدر من الإثارة والغرابة والطرافة والشذوذ‏.‏

تماما
مثل شخصيات المدرسة الطبيعية في روايات إميل زولا والأخوين دي جنكور
وغيرهم‏.‏ في بعض الأحيان يصبح الفقراء في وسائل الإعلام فرجة دون أن تقدم
شيئا يساعد هؤلاء علي الخروج من دائرة الفقر بمعناه النفسي والاجتماعي
وليس الاقتصادي فقط‏.‏

في إندونيسيا نجحت تجربة الصحافة الزراعية
وهي وريقات تحمل بعض المعلومات التي تساعد الفلاحين الذين تم محو أميتهم
في حقول الأرز علي زيادة الإنتاج وتعلم بعض المهارات الاجتماعية والنفسية
التي تعينهم علي حياة اجتماعية صحيحة وتحقق لهم توازنا نفسيا مطلوبا‏.‏

وفي
كثير من دول العالم أهتم التلفزيون بترشيد إنفاق الفقراء في ضوء الموارد
المحدودة وقدمت سلاسل من برامج الطهي التي تساعد في استخدام نفس الموارد
المتاحة في إعداد وجبات صحية متوازنة رخيصة التكلفة تساعد في مكافحة سوء
التغذية لدي الصغار والكبار معا‏.‏ وهناك سلاسل من البرامج التي ساعدت
كثيرا من الأسر في إدارة مواردهم المحدودة‏.‏

وسلاسل أخري من
البرامج كان هدفها حفز طاقاتهم النفسية وضبط علاقاتهم الاجتماعية‏.‏ عشرات
من التجارب نحتاجها بدلا من نظل نتحدث إلي المجتمع عن الفقراء‏.‏ مساحات
محدودة من ساعات طويلة مهدرة من برامج التلفزيون والراديو يمكن ان تدعم
جهود مكافحة الفقر بمعناه الاقتصادي في مصر وتتكامل معها‏.‏

منذ
سنوات كان التليفزيون يحتفل بما سمي عيدالقمح‏.‏ وكالعادة كان الاحتفال
حفلا غنائيا إذ يبدو من الصعب علينا أن نتخلي عن الهزل والغناء والسخرية
في مواقف الجد‏.‏ وفيما بين الفقرات الغنائية كانت هناك لقاءات تحث الناس
خاصة ربات البيوت في الريف والأحياء الشعبية علي الاقتصاد في استهلاك
الخبز‏.‏

ولم تجد مقدمة الحفل سوي ممثلة مشهورة كانت من قبل عارضة
للأزياء تسألها عن سر رشاقتها وجمالها فكانت الإجابة أنها تتبع نظاما
غذائيا لاتأكل فيه إلا القليل من الخبز‏.‏ وفي اللقاء الثاني جاءت بممثلة
أخري تعرض تجربتها في الاستفادة من بقايا الخبز في البيت فشرحت بحماس كيف
أنها تستخدم بقايات الخبز المحمر في صنع نوع من السلطة باستخدام زيت
الزيتون‏.‏ هكذا نتعامل مع توعية الفقراء وحفز طاقاتهم لتغيير واقعهم
الفقير‏.‏

لن يفلح الدعم الحكومي وحده في مكافحة الفقر بل إن
استمراره دون الاهتمام بتغيير ثقافة الفقر سوف يزيد من الأعباء‏:‏ أعباء
الدعم علي الاقتصاد وأعباء الفقر علي الفقراء‏.‏ لن نخسر شيئا لو أننا
أضفنا إلي مبادرات مكافحة الفقر المالي مبادرة أخري لتغيير ثقافة الفقر
ومكافحة الأمية النفسية السائدة بين الفقراء عبر وسائل الإعلام المسموعة
والمرئية وعبر كافة قنوات الاتصال الاخري وفي المقدمة منها مناهج
التعليم‏.‏

ومثل هذه المبادرة بحاجة إلي دعم الأغنياء لأن انتشار
ثقافة الفقر وسلوكياتها لن تجعل حياتهم آمنة مهما حاولوا تجنبها في صروحهم
النائية المعزولة‏.‏ وقبل أن يتسرع البعض ويشكك في جدوي هذه النوعية من
البرامج في مواجهة فيضان الترفيه عبر التليفزيون‏,‏ أشير إلي أن هذه
البرامج سوف تنجح إذا ما أسندت إلي خبرات قادرة علي جذب الانتباه وإثارة
الاهتمام‏.‏ فقد اعتدنا طويلا علي أن نسند برامج التنمية الجادة إلي موظف
بدرجة مذيع أو مخرج فيما نسند برامج الترفيه والتسلية إلي الموهوبين من
المخرجين والمذيعين‏.‏

وأذكر الجميع أن سلسلة حلقات شارع سمسم التي
تعد أكثر السلاسل التليفزيونية شعبية في العالم وقد ترجمت إلي كل لغات
العالم تقريبا بل أصبحت مرجعا في استخدام التلفزيون التعليمي كانت في
الأصل حلقات أنتجت من أجل الأقليات الفقيرة في المجتمع الأمريكي التي كانت
تعاني عوزا في الفرص التعليمية لأطفالها‏.‏