كنـا نظـن بقلم : إبراهيم أصلان

من طرف هايدى الثلاثاء فبراير 24, 2009 11:42 am

كنـا نظـن
بقلم : إبراهيم أصلان

كنا
منينا النفس أن يكون هذا العام أرحم من سابقه‏,‏ وأن الاخبار السيئة لن
تلبث ان تهدأ بين وجبة واخري‏,‏ ثم فوجئنا به يستهل مقدمه برحيل الأساتذة
الكبار محمود امين العالم وعبد العظيم انيس وصديقنا كاتب القصة يوسف أبو
رية وشاعر العامية محمد الحسيني‏

واليوم أرفع سماعة التليفون لأجيب
عن سؤال الصحفية الشابة بعدما سألتني عن اهمية قيام جماعة من المثقفين
السودانيين بترشيح الطيب صالح لنيل جائزة نوبل وهل من الممكن ان تكون لمثل
هذه الترشيحات من جدوي‏.‏ وأنا بعد ما فكرت بيني وبين نفسي ان لا جدوي
منها احرجت ان اقول لها هذا الكلام اذ ربما يقرأ الطيب ويغضب‏,‏ لذلك
قلت‏:‏

والله ممكن‏,‏ ليه لأ‏.‏
وها
أنا بعد ما أضع السماعة أرفعها علي رنين آخر لأفاجأ به وقد رحل‏,‏ وأجدني
راغبا في الاختباء بعيدا عن مسرح العمليات النشيط هذا‏.‏

والطيب
صالح طبعا هو صاحب المقام الرفيع‏,‏ والروايات الأربع‏,‏ والمجموعة
القصصية الواحدة‏‏ عرس الزين‏1964,‏ موسم الهجرة إلي الشمال‏1966),‏
بندر شاه في جزءين‏:‏ ضد البيت‏72‏ مريود‏.73‏ والمجموعة القصصية
دوكة‏1969‏ وهي الأعمال التي استلهمت وجسدت روح أمة كاملة‏,‏ وحققت له
المكانة التي لا يطاوله فيها أحد‏.‏ فطوبي للكتابة الطيبة‏.‏

أنا لن أتحدث عن أعماله تلك‏,‏ نترك ذلك للقادرين من النقاد‏.‏

ولكننا
كنا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي‏,‏ ربما‏,‏ مدعوين إلي إحدي دورات
مهرجان المربد في بغداد‏,‏ وكنا حشدا في بهو فندق المنيا منصور عندما دخل
رجل يرتدي الزي السوداني من جلباب وعمامة بيضاء وهو يرفع صوته صائحا‏:‏

وينو إبراهيم أصلان؟‏.‏
وبادره صديقنا الناقد الكبير فاروق عبدالقادر الذي حضر الواقعة‏:‏

ابراهيم أصلان‏,‏ هو اللي واقف قدامك ده‏.‏

كنت
أقف أمامه فعلا‏,‏ وكنت احد قرائه المحبين‏,‏ وشعرت بالزهو من اجل صياحه
هكذا بين الناس‏,‏ ثم لم نلتق بعدها الا علي فترات متباعدة‏,‏ وعندما
سافرت الي المانيا بسبب ترجمة بعض اعمالي هناك‏,‏ كانوا حريصين في دار
النشر ان يخبروني انهم اهتموا اكثر بسبب كلام الطيب عنها‏:‏ الكاتب
السوداني‏,‏ تعرفه؟‏,‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

وفي العام‏2000‏ انتوينا ان
ننشر مختارات من اعماله نزين بها سلسلة‏(‏ آفاق الكتابة‏)‏ التي تصدر الآن
عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في عنوان‏(‏ آفاق عربية‏).‏ وبعدما
التقينا ترك لي حرية الاختيار‏,‏ وأنا اخترت أعماله واستثنيت عمله
الأشهر‏(‏ موسم الهجرة الي الشمال‏)‏ فلقد قدرت ان الرواية عارية بأكثر
مما تحتمل السلسلة‏,‏ كما أنها سبق وتمت قراءتها علي نطاق واسع‏.‏

وصدرت المختارات وظللنا علي موعد لكي يرسل من يأخذ النسخ المقررة له‏,‏ ولكنه لم يفعل‏,‏ وما زالت لدينا بضعة منها‏.‏

كل
من عرف الطيب صالح‏(‏ تحول إلي أسطورة سمراء‏)‏ أدرك أنه لم يفوت فرصة إلا
وعبر عن مدي استيائه من الثقافة المصرية والسينما المصرية‏,‏ خصوصا في
الأبيض والأسود‏,‏ كان يقول إنها تتعامل مع السودانيين بما لا يليق‏,‏ فلا
يوجد بواب ولا سفرجي ولا خادم إلا وهو أسمر الوجه‏,‏ لم نر شخصا واحدا
يقوم بعمل مهم‏,‏ وهو لم يستطع أبدا أن يتجاوز هذه المسألة‏,‏ برغم
المفاكهة التي كنا نلاقي بها تعليقاته‏,‏ وكنت أتطلع إليه وهو قانط
وأقول‏:‏

يا عم حد يطول يقعد علي كرسي قدام عمارة يتفرج علي الرايح
والجاي؟‏,‏ وهو كان يبتسم‏,‏ إلا أنه لم يغفر أبدا‏.‏ رحم الله الطيب
صالح‏.‏