الحرية والسلطة بقلم‏:‏ أحمد عبدالمعطي حجازي

من طرف ديانا الأربعاء فبراير 25, 2009 12:29 pm

الحرية والسلطة
بقلم‏:‏ أحمد عبدالمعطي حجازي

في
الأدب كما في أي نشاط إنساني آخر‏,‏ نحتاج إلي الحرية‏.‏ لأن الحرية هي
الشرط الذي نستحضر معه انسانيتنا ونتمثلها ونمارسها‏,‏ فنري‏,‏ ونجرب‏,‏
ونفكر‏,‏ ونوازن‏,‏ ونقارن‏,‏ ونختار‏,‏ ونعمل‏,‏ ونقيم عملنا‏,‏
ونراجعه‏,‏ ونصححه‏,‏ وهكذا نلبي حاجاتنا‏,‏ ونحقق أهدافنا‏,‏ وننمو‏,‏
ونتقدم ونتطور‏.‏

وإذا كانت الحرية شرطا نحتاج إليه في نشاطنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي‏,‏ فحاجتنا للحرية في النشاط الثقافي أشد وأعظم‏.‏

نحن
لانختار حكامنا كل يوم‏,‏ ولانغير أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية كل
ساعة‏.‏ لكن الشعراء والكتاب والمصورين والمفكرين والعلماء لايستغنون لحظة
عن الحرية‏.‏ لأنهم مطالبون في كل لحظة باكتشاف الرائع وتقديم البديع‏.‏

لكن
الإبداع مثله مثل السياسة والاقتصاد والاجتماع‏,‏ يحتاج للسلطة بقدر حاجته
للحرية‏,‏ وان اختلفت طبيعة السلطة في النشاط الابداعي عنها في أي نشاط
آخر‏.‏

السلطة في السياسة والاقتصاد والمجتمع هي سلطة القانون
والأعراف والتقاليد التي يرعاها ويخضع لها الجميع‏.‏ أما في الإبداع
فالسلطة هي قبل كل شئ سلطة الذوق والضمير والمثل الأعلي التي لاتفرض نفسها
بالقهر وتفسح المجال للتعدد والتنوع والاختلاف والخصوصية‏.‏

والإبداع
في حاجة للسلطة‏,‏ لأنه ليس نشاطا فرديا خالصا‏,‏ وانما هو نشاط جامع
تلتقي فيه أطراف عدة بطريق مباشر‏.‏ وغير مباشر الشاعر‏,‏ حين ينظم‏,‏
والرسام حين يرسم طرف يتلقي عن أطراف سبقته للنظم والرسم فالعصور الماضية
حافلة بالشعراء والرسامين والنحاتين والموسيقيين الذين تلقوا هم أيضا عن
أجيال سبقتهم‏.‏

والشاعر ليس هو صانع اللغة التي ينظم بها‏.‏ وكذلك
الرسام والنحات والموسيقار الذين يستخدمون ألوانا وأحجارا‏,‏ وأصواتا
استخدمها قبلهم كثيرون‏,‏ وتحولت علي أيديهم إلي لغات لها مفرداتها‏,‏
وقواعدها‏,‏ ودلالاتها‏,‏ ومعانيها‏.‏

وإذا كان المبدع يتلقي عن
المبدعين الذين سبقوه فهو يتجاور مع المبدعين الذين يعاصرونه‏,‏ يتفق معهم
وختلف‏,‏ ويتأثر بهم ويضيف إليهم‏.‏

المادة التي يعمل بها المبدع
طرف‏..‏ والمبدعون الآخرون طرف ثان‏,‏ والجمهور طرف ثالث يشارك المبدع في
عمله ويتدخل فيه بصور مختلفة‏,‏ لأنه يمثل الذوق السائد ولأن المبدع يسعي
للشهرة‏,‏ ويطلب رضا الجمهور ويخطب وده‏.‏ فالجمهور إذن حاضر في العمل‏,‏
فضلا عن حضوره ممثلا في المبدع‏,‏ لأن المبدع هو نفسه فرد من أفراد هذا
الجمهور يشاركه ثقافته وهمومه ومطالبه‏.‏

وطرف آخر يتمثل في الناشرين والمنتجين وخبراء الدعاية وسواهم من الوسطاء الذين يتحكمون في السوق‏,‏ ويقفون بين المبدع والجمهور‏.‏

والنظم
السياسية الحاكمة طرف أخير يؤثر في النشاط الابداعي والثقافي عامة بما
يسنه من قوانين ويتخذه من اجراءات تحترم استقلال المثقف أو تحاول شراءه
واستخدامه‏.‏ تسلم له بحقه في الحرية‏,‏ أو تلاحقه وتحاصره وتضغط عليه‏.‏

معني
هذا ان الابداع ليس حرما خاصا مغلقا أو مقصورا علي المبدع‏,‏ ولكنه ساحة
مفتوحة لأطراف مختلفة‏,‏ لها وجهات نظرها وسياساتها ومصالحها وأهدافها
التي تتباين وتتناقض في بعض الأحيان فتهدد حرية المبدع‏,‏ وحقوق
الجمهور‏,‏ وقد تتجاوز هذا الحد فتهدد الثقافة من أساسها‏,‏ وتمنعها من
أداء رسالتها‏,‏ ومن هنا كان لابد من سلطة تتضح بها المفاهيم‏,‏ وتعتدل
الموازين ويعرف بها كل طرف حقه‏,‏ ويتمكن من الدفاع عنه‏.‏

لكن
الحقوق تختلف والنزاع الذي قد ينشأ بين الكاتب والرقابة‏,‏ أو بينه وبين
الناشر غير النزاع الذي ينشأ بينه والناقد أو بينه وبين الرأي العام‏,‏
نحن نختلف مع الرقابة الحكومية أو مع الناشرين فنلجأ للقضاء العادي‏,‏ لكن
لمن نلجأ حين تفرض علينا بعض الصحف شعراء ليسوا شعراء‏,‏ وكتابا لايعرفون
الفرق بين الألف وكوز الذرة؟

يستطيع كل من شاء أن يعتبر نفسه شاعرا
أو روائيا‏,‏ أو مطربا‏,‏ أو ممثلا‏,‏ لكننا نعرف أن الموهبة لم توزع بين
الناس بالعدل ولو كانوا كلهم شعراء أو مطربين لفسدت الأرض وماتوا كلهم من
الجوع‏.‏

نحن لانحتاج إلا للموهوبين الحقيقيين وهم دائما أفراد
معدودون لكنهم يكفوننا حاجتنا‏,‏ ويضيفون مايقدمونه لتراثنا الذي يغتني
بالأعمال الباقية حين تثبت هذه الأعمال قدرتها علي تلبية حاجات الأجيال
الجديدة التي تجد نفسها في العمل الباقي‏,‏ وتضيف إليه رؤيتها‏,‏ وتخلع
عليه من أفكارها وأحلامها ومشاعرها فيزداد حياة وغني‏,‏ وتلك هي ميزة
الانتاج الثقافي‏.‏

الانتاج الثقافي لايستنفد ولايستهلك كما يستنفد
مخزون القمح والماء والغاز ويتناقص احتياطي الذهب‏,‏ ولهذا نحتاج لملايين
الأيدي العاملة‏,‏ أما الشعراء والرسامون والمطربون فالقليل منهم يغني عن
الكثير وهذا مافهمته الطبيعة فلم توزع الموهبة بالعدل‏,‏ وإنما خصت بها
واختارت لها أفرادا بالذات‏.‏

غير ان الذي فهمته الطبيعة وعملت به
ربما بدا لنا غير مفهوم أحيانا‏,‏ وربما اختلطت السبل وغامت الصور وعجزنا
عن التمييز بين الموهبين وعددهم دائما قليل وصوتهم هادئ‏,‏ وغيرهم وهم
أكثر عددا وعدة‏,‏ وبوسعهم في عصور الضعف والغوغائية وغياب القدرة علي
التمييز أن يضعوا أيديهم علي المنابر‏,‏ ويزيفوا العملة‏,‏ ويخدعوا
الجمهور وينسوه مطالبه النبيلة ويوقظوا غرائزه الدنيا ويستغلوه ويبتذلوه‏.‏

وهكذا يتحول قطاع الطرق إلي كتاب‏,‏ ويجد الشاعر الحقيقي نفسه أمام مائة دعي‏,‏ ويواجه الصوت العذب بجوقة من الأصوات النشاز‏.‏

من
هنا نحتاج إلي سلطة نزيهة حكيمة تفصل في هذه القضية وفي مثلها‏.‏ سلطة من
النقاد القادرين علي توضيح المفاهيم وتقييم الأعمال والتمييز فيها بين
الجيد والردئ‏,‏ والصحيح والفاسد‏.‏ لكن النقد نفسه قد يفسد‏.‏ والنقد ملح
الأدب‏,‏ فإذا فسد الملح فبماذا يملح؟‏!‏