سوء حظ وسوء قصد أيضا‏!‏ بقلم‏:‏ نبيــل عـمـــر

من طرف **ابراهيم** الأربعاء فبراير 25, 2009 12:32 pm

سوء حظ وسوء قصد أيضا‏!‏
بقلم‏:‏ نبيــل عـمـــر

أتصور
أن عددا كبيرا من المثقفين الذين يتحدثون عن المصريين ويدافعون عنهم
وينتقدون أوضاعهم المائلة في الحياة‏,‏ أو يسبونهم من باب التحريض ضد هذه
الأوضاع‏,‏ لايعرفون اهل مصر‏,‏ ربما يعرفون اهل المدن الكبيرة‏,‏ خاصة في
القاهرة والاسكندرية‏,‏ أو الناس الذين يرونهم في وسط العاصمة أو في
المنتديات أو الاصدقاء القاطنين في احياء الطبقة الوسطي القديمة‏..‏ لكنهم
بالقطع لايعرفون شيئا عن هؤلاء المصريين الذين يعيشون في دهاليز شبرا
الخيمة في أماكن قد لايتصورون وجودها علي سطح الكرة الأرضية‏,‏ أو في
التجمعات الريفية التي تحولت الي كيانات مشوهة من حي بولاق الدكرور‏,‏ أو
في العزب المتناثرة في قلب القاهرة نفسها أو خلف شارع الثلاثين في
العمرانية الغربية أو في شقوق روض الفرج أو في قري سوهاج النائمة بالإكراه
في حضن الجبل الشرقي أوفي البيوت الطينية الملاصقة للجبل الغربي علي
امتداده من أسيوط جنوبا حيث كل شيء حي هو جلد علي عظم‏,‏ البشر والماشية
والكلاب والقطط‏,‏ وفي قري الدلتا حيث يمرح الجهل والخرافة ويسيطر أصحاب
العمم سيطرة المستبد الطاغية الظالم الذي لاترد له كلمة ولاقول‏.‏

أتصور
أن ثمة مصر أخري قد لايعلم عنها المثقفون شيئا‏,‏ ثم يجلسون في المنتديات
أو في جلسات السمر يتساءلون سؤالا عظيم الشأن خطير النتائج‏:‏ لماذا
لايغضب المصريون علي أوضاعهم المائلة إلي الدرجة التي يعملون علي تغييرها؟

وقد يصل نقد المثقفين لسلبية المصريين الي حد سب الشعب الذي يرضي بقليله ويمشي جنب الحائط؟‏!‏

صحيح
أن فيه نفرا من المثقفين والسياسيين يدافعون عن الناس ويشكلون حركات تطالب
بالتغيير الذي نحلم به جميعا ويتعجبون‏:‏ لماذا لايهرع الناس زرافات
زرافات الي هذه الكيانات؟

هذه النوعية من الأسئلة المندهشة من رد فعل الناس إزاء أحوالهم المائلة تدل علي عزلة هؤلاء المتسائلين نفسيا عن الشعب‏.‏

والسؤال
البديل هو‏:‏ هل يثق الشعب في النخبة المثقفة سواء كانت تمارس السياسة في
أحزاب ومنظمات أهلية ونقابات‏,‏ أو كانت مكتفية بالتحريض الفكري سواء في
الكتابات المباشرة من مقالات في الصحف وآراء في الفضائيات وكتب منشورة‏,‏
أو في الكتابات غير المباشرة في الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والفن
التشكيلي والشعر والسينما ومسلسلات التليفزيون؟

هل يثق المصريون العاديون في مثقفيهم؟
أظن
أن الإجابة الصحيحة هي بالنفي‏,‏ أو علي أقل تقدير هم لايثقون بالدرجة
الكافية التي تدفعهم الي التفاعل مع هذا التحريض وتطويره الي فعل عام من
اجل التغيير المطلوب‏,‏ أو هم يثقون في قلة منهم لاتسمح طاقاتها بتشكيل
رأي عام مؤثر‏.‏

وبالتالي بدت معظم حركات النخب المثقفة المعارضة
والساعية الي التغيير نحيفة وعارية من أي كساء جماهيري يكسبها دفعا يعمل
له حساب كبير‏.‏

ومن هنا خرجت المقولة الشهيرة‏:‏ الصحف تكتب
ماتشاء والحكومة تفعل ماتشاء‏,‏ وهي مقولة صحيحة لأن ما تكتبه الصحف
لايتبناه الناس الذين هم مصدر القيمة السياسية‏.‏

والسؤال الاهم‏:‏ لماذا لايثق الشعب في مثقفيه؟‏!‏
والاجابة ببساطة‏:‏ فقدان الثقة‏.‏

والشعب
غير مخطئ في فقدان ثقته في مثقفيه أو في أغلبهم علي الأقل أيا كانت
انتماءاتهم السياسية والفكرية‏,‏ وليس معني هذا أنه لايوجد مثقفون كسبوا
ثقة الناس ومحبتهم‏,‏ ولكننا نتحدث عن التيار العام‏,‏ فالاستثناء لا يصلح
ان يكون هو القاعدة التي نقيس عليها‏!‏

فعلا الشعب محق في فقدان
الثقة‏,‏ لانه له تاريخ طويل من الصدمات مع هؤلاء المثقفين‏,‏ تاريخ ممتد
ـ علي الاقل ـ منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة علي يد محمد علي‏.‏

ومحمد
علي ساهم بقدر كبير في تكوين النخبة المثقفة الحديثة‏,‏ فهو الذي أرسل
النابغين منهم إلي أوروبا ليتعلموا العلوم العصرية‏,‏ ومنهاج البحث
والتحليل والتفكير العلمي المنظم‏,‏ وكلها معارف لم تعرفها مصر قبله‏,‏
وكانت تعيش فقط علي معارف التراث المكتوبة والمسموعة‏,‏ كما هي العادة في
عصور الظلام الحضارية‏..‏ وكان من الطبيعي ان تشعر هذه النخبة العائدة من
الغرب المتحضر بامتنان لمحمد علي باشا والي مصر‏,‏ ومن هنا توثقت روابط
العلاقة بين السلطة والمثقفين في مصر‏,‏ فالسلطة تعمل طوال الوقت علي
جرجرة المثقفين الي جانبها والوقوف الي صفها‏,‏ أيا كانت وسائل هذه
الجرجرة بالعطايا والنفوذ او بالعقاب والنفور‏,‏ والمثقفون من جانبهم
يهرعون الي احضانها الدافئة‏.‏

ولم ينفك هذا التحالف بشكله القديم
حتي بعد قيام ثورة يوليو‏..‏ اذ شارك المثقفون القادمون من الطبقة الوسطي
في الحكم‏..‏وعضدوا حكم الفرد ضد الديمقراطية والذي تبلور في احداث
مارس‏1954!‏

باختصار كان المثقفون يكسبون ثقة الناس‏,‏ ثم يبيعونهم
الي السلطة‏,‏ رؤساء نقابات مهنية‏,‏ صحفيون كبار‏,‏ أساتذة جامعات‏,‏
مفكرون‏,‏ كتاب‏,‏ فنانون‏,‏ سياسيون‏..‏

صحيح ان فيه زعامات وثق
فيها الناس علي فترات متباعدة‏,‏ لكن لم تتح لمصر أبدا نخبة قوية كالتي
أتيحت لليابان او كوريا الجنوبية أو ماليزيا أو سنغافورة‏.‏

وحتي
حين نمت المعارضة الحزبية وغير الحزبية في مصر‏,‏ كانت في جزء منها بحثا
عن مكاسب مباشرة‏,‏ وتشكل المثقفون في شلل مغلقة‏,‏ كل شلة تعمل علي مصالح
أعضائها‏,‏ تفتح لهم الطرق والدروب والأبواب وتنبذ أعضاء الشلل الأخري‏,‏
وتهتم بالناس وفق هذه المصالح‏!‏

وباتت المصالح لها طريقان‏:‏ التأييد أو المعارضة‏,‏ والحكايات كثيرة‏,‏ فكيف يثق الناس في نخبة هذا حالها؟‏!‏

ألا يحاول بعض المثقفين الآن تحويل أفاق حقيقي الي زعيم سياسي لأن لهم مصالح في ذلك؟‏!‏

الناس في بلادنا معذورة‏,‏ عندها مشكلات لاحصر لها‏,‏ ولاتستطيع ان تندفع وراء مغامرات تعود بالنفع علي المغامرين لا الناس انفسهم‏.‏

nomar@ahram.org.eg