زرقاء اليمامة بقلم‏:‏ شريف الشوباشي

من طرف karem الأربعاء فبراير 25, 2009 12:34 pm

زرقاء اليمامة
بقلم‏:‏ شريف الشوباشي

بعد
نصف ساعة من انتهاء عملية إزالة‏'‏ المياه البيضاء‏'‏ التي أجريتها في
الأسبوع الماضي‏,‏ كنت بالسيارة في طريق العودة إلي منزلي‏.‏ وقال لي
الدكتور أحمد برادة الذي أجري العملية وهو يودعني ضاحكا‏:‏ هل تعلم ما كان
يحدث للمريض الذي كانت تجري له هذه العملية في الماضي؟ قلت خيرا‏.‏ قال‏:‏
كان يقضي بالمستشفي فترة لا تقل عن أسبوع لا يتحرك خلالها من الفراش‏,‏
وكان يمنع من تحريك رأسه بل كانت توضع أكياس من الرمل حول رأسه لتثبيتها
نظرا لأن أية حركة كان فيها خطر علي العملية‏.‏ سألته مازحا‏:‏ هل كان ذلك
في عصر ابن سينا؟ أجاب د‏.‏ برادة‏:‏ بل كان ذلك منذ وقت قريب عندما بدأت
ممارسة طب العيون علي يد أساتذتنا الكبار مثل الدكتور عبود‏..‏

وقد
أصبحت عملية المياه البيضاء الآن تقترن عادة بزرع عدسات جديدة في العين من
أجل تحسين الرؤية‏.‏ وقد دفعتني هذه العملية إلي الاهتمام بالجديد في طب
العيون‏,‏ فاكتشفت أن هناك ثورة حقيقية في هذا المجال وأنه بعد وقت ليس
ببعيد لن نري شخصا يلبس نظارة طبية لأن نوعية العمليات الجديدة ستجعل من
الممكن ضبط وتعديل الرؤية بحيث يستطيع الإنسان أن يستعيد حدة الإبصار التي
يتمتع بها شاب سليم النظر في العشرين من عمره‏.‏

لكن الأهم من ذلك
أن العدسات التي تزرع داخل العين سوف تتطور مع الوقت‏,‏ وسوف يستطيع
الإنسان أن يري علي بعد عدة كيلومترات وكأنه صقر يميز أصغر الأشياء علي
الأرض وهو يحلق في السماء علي ارتفاعات شاهقة‏.‏ ومعروف أن الطيور تتمتع
بإبصار مذهل وهي تستطيع أن تميز الأشعة فوق البنفسجية وهو ما لا تقدر عليه
عين الإنسان حتي وإن كانت عيني زرقاء اليمامة التي يضرب بها المثل في قوة
النظر‏.‏ وزرقاء اليمامة شخصية تناقل أخبارها العرب قديما وكان في مقدورها
وفقا للتراث العربي أن تري جيش العدو علي بعد مسيرة ثلاثة أيام‏,‏ وكانت
تخبر قومها بذلك فيستعدون للقتال وينتصرون علي الغزاة المعتدين‏.‏ وفي يوم
تخفي الغزاة وراء أشجار اقتلعوها ومشوا خلفها‏,‏ وعندما قالت زرقاء لقومها
إنها تري أشجارا تتحرك نحوهم لم يصدقوها وانتصر الأعداء واقتلعوا عيني
زرقاء اليمامة التي ماتت بعد أيام حسرة علي فقدان بصرها‏.‏

وبما أن
مسيرة ثلاثة أيام تصل إلي نحو مائة كيلومتر فمن المؤكد أن هناك مبالغة
ضخمة في حدة إبصارها‏.‏ لكن الخيال العربي الخصب قد يتحول إلي واقع في
المستقبل القريب‏,‏ حيث لا أستبعد أن يخترع الإنسان عدسات بعد خمسين عاما
يتمكن بفضلها من أن يري أشياء علي بعد مائة كيلومتر وكأن عينيه تحولتا إلي
نظارات معظمة‏,‏ بل لا أستبعد أن تكون هناك عدسات تزرع في العين وتكون
بقوة الميكروسكوب‏.‏ ويجري العلماء أبحاثا الآن بهدف التوصل إلي تخليق عين
إلكترونية تحل محل العين الطبيعية في حالة وقوع حوادث لصاحبها أو وجود
عيوب خلقية‏.‏

ونظرا لأن الزمن والمسافة من أكثر الظواهر التي حيرت
الإنسان وشكلت تحديا في حياته فقد سعي العلماء للوصول إلي أصغر وحدات
الزمن‏,‏ ويرجع الفضل للدكتور أحمد زويل في اكتشاف الفيمتوثانية‏.‏ أما
بالنسبة للمسافة فقد اجتهد الإنسان منذ قديم الأزل ليتخطي حدود نظره من
أجل رؤية ما تعجز العين المجردة عن مشاهدته‏.‏ وفي‏1609‏ أحدث العالم
الإيطالي الفذ جاليليو طفرة في مجال الرؤية عن بعد حيث اخترع منظارا كان
في عصره ثورة في مجال التعرف علي أسرار الكون الذي يحيط بالأرض‏.‏

وعرف
المنظار تطورات مذهلة حتي أرسلت الولايات المتحدة في الفضاء عام‏1990‏
أكبر تلسكوب في تاريخ البشرية باسم هابل وهو عالم أمريكي كانت له إسهامات
ضخمة في مجال الفضاء‏.‏ وبوسع هذا التلسكوب أن ينقل صورا لأجرام وأجسام
تسبح في الفضاء علي بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات‏.‏

ولا أنسي
كم حزنت عندما قرأت مقدمة الراحل الكبير أحمد أمين لكتابه‏'‏ ضحي
الإسلام‏'‏ حيث وصف حالة عينيه المتردية‏,‏ وقال إن الأطباء نصحوه بعدم
العمل والقراءة وإلا تعرض للعمي‏.‏ لكن هذا العالم الجليل استمر في تأليف
كتابه الذي يعد مرجعا في التاريخ الفكري والثقافي العربي والإسلامي علي
حساب ضوء عينيه‏.‏ ولو كان أحمد أمين يعيش بيننا اليوم لاستطاع أن يشفي
وأن تعود إليه قوة بصره بفضل العدسات الجديدة‏.‏

وخلال إقامتي في
باريس كانت عمليات الليزر التي تصحح النظر قد بدأت تنتشر لكنها كانت لا
تزال في مراحلها الأولي‏.‏ وكان الإقدام علي مثل هذه العمليات أشبه
بالمغامرة في بداية الأمر‏..‏ أما الآن فقد أصبحت روتينية ونسب نجاحها
تكاد تصل إلي مائة في المائة‏.‏

ولعل غالبية المصريين كانوا مثلي
قبل أسابيع قليلة لا يتخيلون التقدم المذهل الذي لحق بطب العيون‏.‏ لكنه
سيأتي اليوم الذي تقول فيه الأجيال القادمة وداعا للنظارات الطبية ولقصر
أو طول النظر بل حتي وداعا للعمي‏..‏ بفضل العين الإلكترونية‏.‏

cherifchoubachy@yahoo.fr