ثروات الأمم وثورات الفكر بقلم : السيد يسين

من طرف سعاد حسنى الجمعة فبراير 27, 2009 4:38 pm

ثروات الأمم وثورات الفكر
بقلم : السيد يسين

أقتبس
عنوان هذا المقال من عنوان المحاضرة المهمة التي ألقاها العالم المصري
الكبير الدكتور أحمد زويل الذي حصل علي جائزة نوبل في الكيمياء‏,‏
لاكتشافه زمنا جديدا غير مسبوق هو الفيمتو ثانية‏.‏

ألقي زويل
المحاضرة في الصالون الثقافي لدار الأوبرا المصرية بالقاهرة‏,‏ والذي
يديره الكاتب الصحفي أسامة هيكل‏.‏ وقد دعي للتحاور مع زويل بعد المحاضرة
ثلاث شخصيات أحدهم شاعر معروف هو فاروق جويدة‏,‏ والثاني أستاذ بارز في
الطب هو الدكتور محمد غنيم‏,‏ وكاتب المقال باعتباره باحثا في العلم
الاجتماعي‏.‏

وعنوان المحاضرة ذاته يوحي بأن زويل قد انتقل من عالم
الكيمياء إلي مجالات الفلسفة والتحليل الثقافي‏,‏ وهذا مسار معتاد سبق
لكبار العلماء مثل أينشتين وبرتراند رسل أن اجتازوه‏.‏ ولعل هذه الظاهرة
مردها إلي أن العالم الكبير الذي يكتشف نظريات جديدة‏,‏ أو يخترع أدوات
مستحدثة تحدث انقلابات في العلم المعاصر‏,‏ غالبا ما ينتقل إلي عالم
التأملات الفلسفية عن الكون‏,‏ بحكم اقترابه من القوانين الأساسية التي
تحكمه‏,‏ أو إلي مجال التحليل الثقافي في محاولة أصيلة من جانبه في الربط
الوثيق بين العلم والمجتمع من ناحية‏,‏ وبين العلم والثقافة من ناحية
أخري‏.‏

والسؤال الجوهري الذي طرحه زويل وقدم بصدده إجابات مبهرة هو ما العلاقة بين ثروات الأمم وثورات الفكر؟

وقد
مارس زويل تحليله الثقافي الناقد من خلال الحديث عن المناخ العلمي‏,‏
والذي يتشكل أساسا من علماء بارزين ينتجون مدارس علمية متميزة لها
تقاليدها وأتباعها‏,‏ ويمارسون الاتصال فيما بينهم لتبادل المعلومات
والمعرفة في جو طليق ليس فيه حدود علي حرية التفكير‏,‏ وتحكمه أعراف صارمة
تتعلق بأساليب النشر العلمي في مجالات علمية محكمة‏,‏ يتحدد علي ضوء ما
تنشره من أبحاث السبق العلمي للباحثين‏,‏ الذين يكتشفون حقائق جديدة لم
تكن معروفة من قبل‏,‏ أو يقومون من خلال ما يطلق عليه التجارب
الحاسمة‏Crucalexperiments‏ إثبات أو نفي بعض القروض العلمية المهمة التي
ذاعت في الوسط العلمي‏,‏ ولم تتح أدوات العلم السائدة في لحظة ما التحقق
من صدقها‏.‏

هذه حقائق معروفة عن أهمية المناخ العلمي الذي يتسم
بالحيوية في البلاد المتقدمة في إظهار النبوغ العلمي الكامن لدي
الباحثين‏,‏ والاعتراف بهم‏,‏ ومنحهم التقدير الأدبي اللازم‏,‏ عن طريق
منحهم الجوائز العلمية رفيعة المستوي‏,‏ والتي لا تمنح إلا بعد عملية
تحكيم موضوعية وصارمة‏,‏ وربما كانت جوائز نوبل التي تمنح في فروع علمية
متعددة بالإضافة الي الادب‏,‏ نموذجا رفيعا في التحكيم العلمي الذي لا
يخضع اطلاقا للمجاملات‏.‏

وعادة ما يسبق منح العالم الفذ الذي يحصل
علي جائزة نوبل جوائز رفيعة أخري‏,‏ يعد حصوله عليها مؤشرا علي أن جائزة
نوبل في انتظاره في الوقت المناسب‏.‏

غير ان الجديد الذي قدمه زويل
في محاضرته هو التحليل الثقافي للمجتمع‏,‏ الذي يوفر الشروط الموضوعية
للإبداع بأنماطه المختلفة‏.‏ وأهم هذه الشروط قاطبة ضمانات حرية التفكير
وحرية التعبير‏,‏ وانتفاء الأعراف الرجعية التي تحرم التفكير‏,‏ أو تضع
قيودا علي حرية التعبير‏.‏

ليس ذلك فحسب بل إن النظام السياسي ذاته
لابد أن يؤسس علي قواعد الديمقراطية‏,‏ التي تسمح بالتعددية الحزبية
والفكرية‏,‏ والتي تبيح حرية التنظيم في شكل نواد ثقافية وجمعيات علمية‏.‏

لقد
حاول زويل ان يربط بين صعود النظام الرأسمالي الاوروبي والثورات الفكرية
التي قامت في بداية نشأته‏,‏ وساعدت علي تبلور الاقتصاد الصناعي الحديث‏,‏
والذي كان احد اسباب تراكم ثروة الدول الأوروبية‏.‏

وقد حاولت في
تعقيبي علي القسم الاول من محاضرة زويل‏,‏ والذي عني فيه بالتحليل
الثقافي‏,‏ ان أقدم عرضا تاريخيا ومعاصرا في آن واحد للارتباط الوثيق بين
ثروات الأمم وثورات الفكر‏,‏ منذ نشوء نموذج المجتمع الصناعي حتي بروز
مجتمع المعلومات العالمي‏,‏ الذي تشكل في ظل العولمة والتي هي الظاهرة
السائدة في عالم اليوم‏,‏ والتي أثرت في كل الممارسات السياسية
والاقتصادية والثقافية المعاصرة‏.‏

ونقطة البدء التي ركزت عليها هي
أن نموذج المجتمع الصناعي الذي قام علي أساس وحدة أساسية هي السوق التي
نظر له كارل بولاني في كتابه الشهير التحول العظيم‏,‏ نشأ في ظل المشروع
الحضاري الأوروبي والذي يجد عنوانه الأساسي في مصطلح الحداثة‏.‏

والحداثة
باعتبارها مشروعا حضاريا مكتملا تقوم علي عدة أسس هي أولا الفردية‏.‏
وأساس الفكرة هنا ضرورة استخلاص الفرد‏,‏ باعتباره كائنا مستقلا له حقوق
سياسية وحقوق اقتصادية وحقوق اجتماعية‏,‏ من براثن الشمولية التي كانت
سائدة في المجتمع الإقطاعي الزراعي الأوروبي‏,‏ حيث كان الأفراد مجرد عبيد
يعملون لصالح اللورد الإقطاعي الذي يملك الأرض وما عليها‏.‏ وهذا المالك
الإقطاعي كان من حقه تقييد حرية الحركة لعبيد الأرض‏,‏ فليس من حقهم
الانتقال من مكان إلي آخر إلا بإذنه‏,‏ كما أن أجورهم هو الذي يحددها
بإرادته المنفردة‏.‏

ولذلك حين ظهر المجتمع الصناعي الرأسمالي كان
شعاره الشهير دعه يعمل‏,‏ دعه يمر‏!‏ أي دع الفرد يختار العمل الذي يريده
بغير إجباره‏,‏ ولتطلق له الحرية في الانتقال من مكان إلي آخر بغير قيود‏.‏

أما
الأساس الثاني لمشروع الحداثة الأوروبي فقد كان هو العقلانية‏.‏
والعقلانية هي التي قام بالتنظير لها عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس
فيبر‏.‏ والنظام الاقتصادي الرأسمالي الحديث نشأ وتبلور بفضل هذه
العقلانية التي كانت وراء اختيار المشروعات الصناعية وتحديد طريقة
تمويلها‏,‏ وسبل تسويق المنتجات‏,‏ بالاضافة الي رسم خرائط فتح الاسواق‏.‏

والاساس
الثالث للحداثة هو الاعتماد علي العلم والتكنولوجيا‏,‏ بالاضافة الي تبني
نظرية خطية‏Linear‏ عن التاريخ الانساني‏,‏ تري انه يتقدم من مرحلة
لأخري‏.‏ هذه هي النظرية العامة للحداثة الاوروبية‏,‏ غير ان هناك حداثات
اخري فرعية‏.‏ اهمها علي الاطلاق الحداثة السياسية‏,‏ وهي تطبيق
الديمقراطية شكلا وموضوعا‏,‏ والحداثة الفكرية وهي التي رفعت شعار ان
العقل هو محك الحكم علي الاشياء وليس النص الديني‏,‏ وذلك بعد ان قطع
المجتمع الاوروبي علاقته بتراث الكنيسة التي مارست الجمود الفكري حتي عطلت
نمو المجتمع‏,‏ وطبقت الاستبداد السياسي مما ادي الي انتشار القهر‏.‏

وهناك
اخيرا الحداثة الاجتماعية والتي تقوم علي أساس إعطاء الفرد ما يستحقه حسب
مواهبه وامكانياته‏,‏ وليس وفقا لانتماءاته القبلية او العرقية‏.‏

في
ضوء مشروع الحداثة الاوروبي قام نموذج المجتمع الصناعي الرأسمالي الذي
راكم ثروات الدول الاوروبية ليس فقط من خلال الانتاج الداخلي‏,‏ ولكن ايضا
عن طريق موجات الاستعمار التي قامت بها الدول الاوروبية العظمي لبلاد
العالم الثالث‏.‏

ساد النموذج الصناعي الرأسمالي وانتشر في قارات
متعددة‏,‏ إلي أن قام نموذج صناعي اشتراكي ينافسه منافسة شديدة بعد قيام
الثورة البلشفية في روسيا عام‏1917,‏ وبالرغم من اشتراك النموذجين في
الانتقال من الزراعة الي الصناعة إلا ان المشروع الشيوعي قام علي اساس
نظرية مختلفة للحداثة‏,‏ فهو لا يقوم علي اساس الفردية وانما علي اساس
الجماعية‏,‏ وتقييد حركة الفرد سياسيا‏,‏ والسيطرة علي تنقله من مكان
آخر‏.‏

ودار التاريخ دورته‏,‏ واذا بالنموذج الصناعي الشيوعي يسقط
نهائيا بانهيار الاتحاد السوفيتي ذاته‏,‏ وتفككه‏,‏ ولم يبق في الساحة إلا
النموذج الصناعي الرأسمالي‏,‏ الذي لحقه التطور عبر الزمن نتيجة تفاعله مع
ظروف تاريخية متعددة‏,‏ إلي أن وصل الي صيغة الليبرالية الجديدة‏,‏ التي
تريد نفي دور الدولة الاقتصادي بالكامل‏,‏ وفتح الطريق بلا حدود امام حرية
السوق‏.‏

غير أنه مرافقا لصعود العولمة والتي هي بحسب تعريفنا
الاجرائي لها سرعة تدفق المعلومات والمعرفة ورءوس الأموال والسلع والخدمات
والبشر من مكان الي آخر في العالم بغير حدود ولا قيود‏,‏ ظهر نموذج حضاري
جديد خلفا لنموذج المجتمع الصناعي وهو نموذج مجتمع المعلومات العالمي‏.‏

ووحدة
التحليل الأساسية في هذا النموذج ليست هي السوق‏,‏ ولكن ما يطلق عليه
الفضاء المعلوماتي‏Cyberspace‏ والذي يعد عالم الاجتماع الأمريكي كاستلز
هو المنظر الأكبر له بكتابه الموسوعي عصر المعلومات‏,‏ والذي يضم ثلاثة
مجلدات‏,‏ هي المجتمع الشبكي‏,‏ وقوة الهوية‏,‏ ونهاية الألفية‏.‏

وهذا
المجتمع الجديد ليس ـ كما يشيع احيانا ـ هو تكنولوجيا المعلومات‏,‏ ولكنه
نموذج حضاري متكامل‏,‏ لا يقوم الا علي اساس الديمقراطية والشفافية وحرية
تداول المعلومات‏,‏ وحق كل مواطن في الحصول علي اي معلومة مجانا وفي اسرع
وقت‏.‏

ومجتمع المعلومات يتطور ـ ببطء وان كان بثبات ـ لكي يصبح
مجتمعا للمعرفة‏.‏ وهذا المجتمع سيبني علي اساس اقتصاد المعرفة حيث تمثل
عملية انتاج المعرفة وتحويلها الي سلعة يتم تداولها في السوق هي العملية
الأساسية في القرن الحادي والعشرين‏.‏

ولا يمكن انتاج المعرفة إلا في ضوء مناخ سياسي واجتماعي وثقافي يشجع الابداع والابتكار‏.‏

وهكذا
ارتبطت ثروات الامم في الماضي كما اكد الدكتور زويل بثورات الفكر‏,‏ وها
نحن نشهد الآن الارتباط بين الثروة الناجمة عن مجتمع المعرفة بالثورة
الفكرية الكبري التي تعبر عنها العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية
والثقافية والاتصالية‏.‏