شق النهار‏13‏ ـ اللعب بالأوراق القديمة بقلم : أسامة أنور عكاشة

من طرف تامر الجمعة فبراير 27, 2009 5:26 pm

شق النهار‏13‏ ـ اللعب بالأوراق القديمة
بقلم : أسامة أنور عكاشة

ـ
لا تراوغني يادكتور‏..‏ فأنا أعرفكم جميعا يا آل رياض‏!‏ معرفة عشرة وعيش
وملح‏!‏ ربما لا تذكر لأنك كنت صغيرا وكنت بعيدا عن مدارات السياسة التي
دار فيها أبوك وشقيقك الأكبر‏..‏ ولكني لبثت في داركم نحو ثلاثة أشهر
مختبئا من البوليس‏!‏ ولاحظت أنك لم تشعر بوجودي بينكم ولم تقترب مني قدر
خطوة واحدة‏..‏ كنت تحمي نفسك بإغماض العين دون ما تكره أن تراه كأنك ولدت
بحاسة خاصة تستشعر الخطر فتتكور حول ذاتك وتتشرنق مبتعدا عن الآخرين‏...‏
راح أبوقردان يشرح له نفسه فلم يلبث أن شعر بالملل وأرخي زمام أفكاره وفقد
التركيز فشرد متخطيا بعينين إطار النافذة القريبة ليري نهير تطل من خلف
الزجاج‏..(‏ تري هل تتساءلين أين ذهبت؟ أم تظنين اني سافرت حقا؟‏)‏ أحس
بحنين جارف لقربها‏..‏ وتنسم أريج عطرها‏..‏ لكن رائحة لفافة الدخان ذات
اللون البني الغامق الملتصقة بشفتي أبوقردان زكمت أنفه وأبعد نهير عن زجاج
النافذة‏..‏

ـ لماذا لا ترد يارفيق شوقي؟‏..‏ أين شردت حتي لا تسمعني؟

ـ ربما لأنك تروي ما أعرفه يارفيق جميل‏..‏

ـ
أنا لست رفيقا‏!‏ خصوصا بالنسبة اليك‏..‏ وسأكرر عليك السؤال‏..‏ هل سمعت
عن قبلة يهوذا؟ ماذا يقصد هذا الرجل؟ يهوذا الإسخربوطي هو تلميذ المسيح
الذي باعه بثلاثين قطعة من الفضة‏..‏ وكانت إشارة تسليم المخلص ان يقبله
يهوذا فيعينه للكهنة وجنود بيلاطس البنطي‏!..‏ ماذا تريد بسؤالك؟‏..‏

ـ أريد أن أذكرك بأنك قبلتنا نفس القبلة ولنفس الغرض‏!‏ وشيت بنا جميعا في ليلة واحدة‏..‏ هل تذكرها يا يهوذا؟

ـ ومن كان يسوع الناصري فيكم؟

ـ أخوك شهدي بالطبع‏!‏
‏
...‏
كان الحديث ثقيلا‏..‏ تساقطت الكلمات فيه كالأحجار بداخله‏!‏ هاجمته نوبة
من الغثيان لم يستطع التغلب عليها فطاوعها وأغرق مكتب الرجل الذي ثار فبصق
في وجهه وغادر المكتب‏!‏ أعادوه الي محبسه واستطاع في طريق العودة أن يلمح
مساحة من غروب المساء السبتمبري‏...‏

كان سبتمبر شهره المفضل برغم
ما كان يثيره في صدره من غصة الأشجان وخفقات اللوعة‏..‏ وكم ألفي نفسه
يبكي في ليالي سهرها وحيدا بلا سبب‏..‏ إلا اذا كانت وترية فيروز تهزج
بجواره علي المسجل حبيبي بدو القمر‏..‏ والقمر عالي‏..‏ بدو عشر ليالي‏..‏
عشر ليالي سهر‏.....‏ ثم يأتي هذا الأبوقردان ليتهمه بأنه واش حقير‏,‏
ويحدثه عن يهوذا وقبلته الغادرة‏!‏ وكيف لجبان خائن أن يعرف الحب؟‏..(‏
وكأن ما يمر به الآن يصلح للتفكير في الحب وسحر سبتمبر وأهازيج فيروز‏!!)‏
أعادوه الي العنبر‏..‏ واقترب منه علي الغباري وسأله عن التحقيق

ـ لم يسألني المحقق عن التهمة التي أخذوني بها‏..‏ ولكن وجه الي اتهامات قديمة‏..‏

ثم
سرد له تفاصيل ما حدث‏(‏ حتي رحلة شروده مع نهير‏...)‏ وكان قد تعرف بعلي
الغباري في فناء الفسحة في السجن وعرف منه أنه فنان تشكيلي متخصص في نسخ
اللوحات الشهيرة‏..‏

ـ سنخرج يوما وأدعوك الي مرسمي‏..‏ وستري ما
رسمته عن لوحات الفلمنكيين العظام‏..‏ رامبرانت وروبنز وفان دايل وفان
جوخ‏..‏ وستتسمر أمام الحرس الليلي ودرس التشريح وزهرة الخشخاش وعباد
الشمس‏..‏ ولن تصدق انها ليست الأصلية وانما مجرد نسخة نقلها العبدلله‏!‏

ـ وما هو السبب الذي جاء بك الي هنا؟‏..‏

ـ نفس السبب الذي جاء بك‏!‏

ـ ليس هناك أي سبب‏...‏ في علمي علي الأقل‏..‏

الليلة لم يتحدث الغباري عن الفن ولم يدافع كالعادة عن عمله كرسام ناسخ‏..‏ ولكنه سأله‏:‏ لماذا لم توكل محاميا؟

ـ
لم تخطر المسألة ببالي‏..‏ ما حدث لي مجرد خطأ سرعان ما يكتشفونه فيعتذرون
لي ويطلقون سراحي‏!‏ انفجر علي ضاحكا في سخرية فجة ورماه بالسذاجة
والاستعباط‏:‏ اذا كنت لا تفهم فتلك مصيبة‏!‏ واذا كنت تفهم وتستهبل
فالمصيبة أعظم‏!‏ ألا تعلم أنهم ماداموا قد اعتقلوك فلابد أن توجه لك
اتهامات لتصنع قضية‏..‏ لابد أن تسدد الخانات وتكتمل الملفات‏..‏

وها
هي خيوط العنكبوت تنسج حولك بمهارة‏,‏ وقد بدا لي مما رويته عن تفاصيل
التحقيق الذي أجراه معك اليوم السيد أبوقردان أنهم فتحوا ملفات والدك
الرفيق المناضل وشقيقك شهيد القضية وبدأوا يربطونك بقصة الشيوعية‏..‏
صدقني واسرع بتوكيل محام وإلا‏..‏

وإلا ماذا؟ علي الغباري يؤكد انني اذا لم أتحرك وأمارس حقوقي القانونية فسوف يعتبرونني مقطوعا من شجرة ويهملونني الي ما شاء الله‏!‏

هل يمكن أن يحدث هذا؟‏..‏
ا
نتظر
بسيوني الشرطي السجان حتي انتهت صلاة الجماعة وسأل عن الشيخ عادل‏..‏ وحين
أشاروا عليه أسرع نحوه‏..(‏ أنا من طرف الدكتور شوقي‏..‏ وقد أرسل لك هذه
الرسالة‏)..‏ سلمه المظروف الصغير وأطلق ساقه للريح‏!‏

في غروب نفس
اليوم زار عادل سرايا الباشا‏...‏ أخيرا عرفت أين ذهب‏..‏ هو لم يسافر كما
ظننا‏...‏ شوقي مقبوض عليه وفقا لقانون الطوارئ‏..‏ وهرب لنا هذه الرسالة
لنبحث له عن محام يتولي قضيته‏..‏
‏
..‏ كانت الرسالة واضحة‏..‏ بلغ نهير ياشيخ عادل

بلغ
نهير‏!‏ اتراها استغاثة أم مجرد اعتذار عن الغياب؟ ربما لا تعرف علي وجه
التأكيد‏..‏ لكنها تشعر بالجزع برغم ارتياح خفي رسب في أعماقها لأنها
أيقنت من براءتها وتخففت من احساس الذنب الذي خالجها لأنها تسببت في
رحيله‏..‏ وبين الكثير من الانزعاج والقليل من الارتياح أيقنت أن مشاعرها
تجاهه لم تكن يوما محايدة وأنها حين غضبت منه كانت تقاوم رغبتها الدفينة
في الاستسلام‏..‏ نعم‏!‏ هي تحب‏..‏ ولن تترك من تحب غارقا في أزمته‏..‏

وحين
تمرغت رأسها علي الوسادة تلك الليلة‏..‏ كانت تراوغ النوم‏..‏ وتريد أن
تمضي ليلتها تفكر في كل الاتجاهات التي تملك السير فيها‏..‏ من أجله‏..‏

وحين تسللت خيوط الفجر من خلف ستار النافذة‏..‏ كانت قد نادت واستسلمت لحلم رأت فيه شوقي يجلس بجوارها تحت شجرة الجوافة‏!‏