قنديل أم هاشم وعودة الطيب صالح بقلم : محمد عيسي الشرقاوي

من طرف قسمة ونصيب السبت فبراير 28, 2009 10:25 am

حكايـة سياسية
بقلم : محمد عيسي الشرقاوي

قنديل أم هاشم وعودة الطيب صالح

فتي
كالمعجزة‏..‏ هكذا كان يري الاساتذة تلميذهم النجيب مصطفي سعيد‏..‏ فقد
آثار دهشتهم واعجابهم به‏..‏ ذلك أن عقله كان أعجوبة فذة‏,‏ يستوعب مايقرأ
ويحفظه عن ظهر قلب‏..‏ واحتفي به ناظر المدرسة‏,‏ وكان إنجليزيا‏,‏ ابان
زمن احتلال بريطانيا للسودان‏,‏ وقال له في ود وزهو‏..‏ عليك بالسفر إلي
القاهرة لاستكمال تعليمك‏,‏ ويسر له أسباب السفر‏..‏ ولم يمكث مصطفي في
القاهرة طويلا‏.‏ فقد غادرها إلي لندن‏,‏ وتعلم في جامعة بريطانية‏,‏
وأصبح استاذا مرموقا للاقتصاد هناك‏.‏

غير أن مصطفي سعيد انخرط‏,‏
طواعية واختيارا في درب سري للعواطف الجامحة‏..‏ وأضحي في حجرات النوم
ساحرا وغازيا إفريقيا وانتهت غزواته في ساحة العشق المحموم‏,‏ بارتكابه
جريمة قتل زوجته البريطانية‏,..‏ وحكموا عليه بالسجن‏..‏ وبعد أن أمضي
فترة العقوبة‏,‏ عاد إلي السودان‏..‏ وتخفي وراء قناع محكم‏..‏
وتزوج‏,‏وأنجبت زوجته ولدين‏..‏ ثم مات منتحرا أو غرقا في الجوف السحيق
لفيضان النيل‏.‏

تلك مجرد لمحات تضئ رائعة الروائي السوداني الطيب
صالح‏..‏ موسم الهجرة إلي الشمال‏..‏ رواية فاتنة خلبت لب القراء‏,‏
واستأثرت باهتمام النقاد والمثقفين فور صدورها عام‏1966..‏ وافتتح بها
الطيب دون قصد منه‏,‏ موسم ميلاد عبقرية روائية جديدة علي حد تعبير
الاستاذ الكبير رجاء النقاش‏,‏ وتجدد بنشرها الجدل الفكري حول ثنائية
الشرق والغرب وأوجه الصراع الحضاري بينهما‏..‏ وتلك قضية مثيرة فجرها في
مصر الروائي والكاتب المبدع يحيي حقي‏,‏ عندما نشر روايته قنديل أم هاشم
عام‏1944..‏

والتصقت رواية موسم الهجرة إلي الشمال بالطيب صالح
التصاقا شديدا‏..‏ وكانت ولاتزال بأسلوب وسردها المبلل بندي الشعر‏,‏
وبنائها الفني المتقن والجميل‏,‏ تقصي بعيدا عنه ابداعاته الأخري وشقت
الرواية طريقها إلي القمة‏..‏ وتبوأت مكانة أدبية سامقة باعتبارها من بين
أهم مائة رواية عالمية‏..‏ لكن اللافت للانتباه أن الطيب لم يكن فيما يبدو
أسيرا لشهرة روايته‏.‏ ولانه كان متيما بالشاعر العربي العظيم أبو الطيب
المتنبي‏,‏ فقد قال‏..‏ قصيدة واحدة للمتنبي تساوي كل ماكتبته‏.‏

ومع
عظيم التقديم للمتنبي‏,‏ وبالغ الاحترام لرأي الطيب صالح‏..‏ إلا ان
ماكتبه في موسم الهجرة إلي الشمال كان عظيما وسديدا وفاتنا‏..‏ واذا
مانحينا جانبا مسألة الصراع الحضاري بين الشرق والغرب‏,‏ فإن الرواية كانت
تنطوي علي انذارات مبكرة بأن أزمة الدول المستقلة حديثا في إفريقيا‏,‏
وربما في غيرها‏,‏ تكمن في أن الصفوة الحاكمة الجديدة من أبنائها قد ضلو
الطريق‏,‏ في أعقاب توليهم زمام السلطة‏.‏ وروجوا بنمط سلوكهم الشائن
والمشين لظهور أوضاع اجتماعية واقتصادية تشكل للبلاد خطرا أشد من
الاستعمار نفسه‏..‏

ومن يمعن النظر ويطيل التأمل فيما كتب الطيب‏,‏
سوف يدرك أن السادة الجدد الذين خاصموا الديمقراطية‏,‏ واعتقلوا الحرية قد
أشاعوا الفساد‏,‏ وأذلوا العباد‏..‏ وكانوا أشد خطرا علي بلادهم من مسألة
الصراع الحضاري‏..‏ وتلك مسألة كان قد حسمها بفطنة وذكاء جدنا العظيم
رفاعه رافع الطهطاوي‏(1801‏ ـ‏1873)‏ في أعقاب عودته من بعثته في فرنسا
عام‏1831..‏ فقد نبه إلي ضرورة الحفاظ علي الاصالة والتطلع للمعاصرة‏..‏
وهذه هي معادلة النهضة‏.‏

وعندما مات الطيب صالح في صقيع منفاه الاختياري في لندن كان قنديل أم هاشم يضيء درب عودته إلي ثري الوطن‏.‏