غنائية الســـرد في موســم الهـــجرة بقلم : بهاء جاهين

من طرف **محمد** الثلاثاء مارس 03, 2009 10:01 am

غنائية الســـرد
في موســم الهـــجرة
بقلم : بهاء جاهين

ونحن
بصدد التأمل فيما أضافه الطيب صالح للأدب العربي والأدب ككل‏,‏ تذكرت ما
استوقفني في قراءاتي العديدة لـ موسم الهجرة الي الشمال‏.‏

الي
جانب موضوع الرواية‏,‏ وهو استحالة اللقاء الحقيقي بين الجنوب والشمال‏,‏
الذي ربما طرقه من قبل‏,‏ مع بعض الاختلاف‏,‏ يحيي حقي في قنديل أم هاشم
والحكيم في عصفور من الشرق‏,‏ متمثلا في علاقة الحب والخداع بين العصفور
وصائدته الفرنسية‏,‏ تبقي الاضافة الكبري في موسم الهجرة في كيفية تجسيد
الصراع أو علاقة الحب الحاقد‏,‏ واللذة السادية ـ المازوخية المتبادلة بين
الطرفين‏.‏

ان الأسلوب الذي ارتضاه الطيب صالح للتعبير عن هذا هو
استخدام تقنية مستعارة من الغناء‏,‏وبالتحديد من التركيب الشعري في بنية
الأغنية‏,‏ من حيث تكرار بعض السطور المغناة فيما يسمي بـ المذهب أو
اللازمة وسطور أخري تذكرنا باللازمة وتنقلنا للمقطع الجديد وهو مايسمي بـ
المرجع‏.‏

وبالطبع لايعني هذا ان الرواية كلها مكتوبة بهذه الطريقة
من نواحي جمال العمل أنه مكتوب بمستويين‏:‏ أحدهما سرد عادي بلغة نثرية‏,‏
فيما يحكيه الراوي من أحداث تدور في القرية حين قابل الغريب الذي حل بها
من سنين قليلة وأثار فضول الراوي حتي سمع منه حكايته‏,‏ والمستوي اللغوي
الآخر هو الحكاية نفسها‏,‏ وهو مكتوب بلغة شعرية راقية‏,‏ وان كان نثرا
بالطبع‏.‏

هنا نلمس غنائية السرد التي تحدثت عنها‏,‏ والتي تناسب
موضوع الحب‏,‏ وان كان مريضا مشوها‏,‏ بين بطل الرواية مصطفي سعيد وبين
مجموعة من النساء قابلهن في لندن حيث عاش وتعلم وحصل علي درجة الدكتوراة
ثم صار استاذا للاقتصاد السياسي وصائدا محترفا للنساء‏.‏

كل امرأة عرفها مصطفي سعيد مكتوبة قصتها علي شكل أغنية‏.‏

الأولي‏:‏ آن همند‏:‏
كانت عكسي تحن الي مناخات استوائية‏,‏ وشموس قاسية‏,‏ وآفاق ارجوانية‏.‏ كنت في عينها رمزا لكل هذا الحنين‏,‏ وأنا جنوب يحن

الي الشمال والصقيع‏(...‏ صفحة‏33).‏

وذات يوم وجدوها ميتة انتحارا بالغاز‏,‏ ووجدوا ورقة صغيرة ليس فيها سوي هذه العبارة‏:‏ مستر سعيد‏.‏ لعنة الله عليك‏(‏ صفحة‏34).‏

هذان
المقطعان يتكرران في آخر الرواية‏(‏ صفحة‏147,142)‏ حين يتعرف الراوي علي
صورة آن في حجرة مصطفي الانجليزية السرية الكامنة في بيته السوداني
الريفي‏,‏ حيث ترك للراوي المفتاح بعد أن أوصاه قبيل وفاته بولديه‏.‏

والثانية
والثالثة سأعبرهما‏,‏ لأصل الي جين مورس‏,‏ التجسيد الأعلي والأتم لعلاقة
الحب والتعذيب المتبادل واستعذاب العذاب ولذة التحطيم بين الجنوب والشمال
حين يلتقيان‏,‏ أو يظنان انهما يلتقيان‏.‏

يبدأ الطيب حكايته بالمذهب ـ كما في الأغاني ـ ليتكرر بعد ذلك ثلاث مرات‏:‏

كان عقلي كأنه مدية حادة‏.‏ وحملني القطار الي محطة فكتوريا والي عالم جين مورس‏(‏ صفحة‏32).‏

وبعد
أن يحدثنا عن آن همند‏,‏ ورسالة الانتحار التي تركتها له‏,‏ في المقطع
المذكور أعلاه‏,‏ يعود بنا فجأة للمذهب‏:‏ وحملني القطار‏..‏ إلخ‏.‏ وبهذا
صار المذهب مرجعا ينقلنا من كوبليه لآخر‏,‏ ومن حركة لحنية لأخري‏.‏

ثم كوبليه يتكرر‏(‏ في صفحة‏36‏ ثم‏158‏ قرب النهاية مع بعض الاختصار‏:‏

لبثت
اطاردها ثلاثة أعوام‏,‏ كل يوم يزداد وتر القوس توترا‏,‏ قربي مملوءة
هواء‏,‏ وقوافلي ظمأي‏,‏ والسراب يلمع أمامي في متاهة الشوق‏..‏ وذات يوم
قالت لي‏:‏ أنت ثور همجي لا يكل عن الطراد‏,‏ انني تعبت من مطاردتك لي‏,‏
ومن جريي أمامك‏,‏ تزوجني‏.‏

ورد هذا المقطع أو الكوبليه في
البداية كإشارة عابرة في الفصل الذي بدأ فيه مصطفي سعيد يحكي للراوي
حكايته‏,‏ وفي الفصل الأخير يعثر الراوي في الحجرة السرية التي أشرنا
اليها‏,‏ علي بعض الأوراق منها قصة سعيد مع جين مورس بالتفصيل‏,‏ وفيها
يتكرر المقطع المذكور‏.‏

لن أخوض في الدلالات السياسية الحضارية
لذلك الفصل المؤلم الجميل‏,‏ فلن آتي بجديد اذا استطردت فيما يعلمه الجميع
حول العشق السادي المازوخي إلخ‏..‏ ولكن مايعنيني هنا‏,‏ ونحن بصدد النظر
في اضافة الطيب صالح للادب‏,‏ هذا البناء الشعري المتقاطع مع مستوي السرد
النثري كما اشرت‏,‏ والمتمايز عنه‏,‏ ليس فقط بشعرية اللغة‏,‏ ولكن بذلك
التعبير أو السرد الغنائي لعاطفة هي في طبيعتها غنائية وهي الحب الذي
طالما كان وسيظل موضوع الغناء الأوحد‏,‏ هذه التقنية التي تأملناها معا
بشيء من التفصيل هي في ظني الاضافة الأم في موسم الهجرة الي الشمال التي
هي الاضافة الأم للادب العربي والعالمي بين كل ماكتبه الطيب صالح‏.‏