العام كله احتفال به‏!‏ بقلم: أحمد عبدالمعطي حجازي

من طرف koko الأربعاء مارس 04, 2009 11:19 am

العام كله احتفال به‏!‏
بقلم: أحمد عبدالمعطي حجازي

أنا
عائد من تونس بعد رحلة قصيرة ممتعة‏,‏ شاركت خلالها في أمسية شعرية افتتح
بها البلد الشقيق احتفالاته بالذكري المئوية الأولي لميلاد شاعره العبقري
أبي القاسم الشابي الذي استطاع وحده أن يهزم الدهر‏,‏ وأن يترك في الدنيا
هذا الدوي المتصل الذي جسده المتنبي‏,‏ وهو يتحدث عن المجد ويعدد صوره
فيقول‏:‏

ولا تحسبن المجد زقا وقينة
فماالمجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن تري

لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر‏!‏

والحقيقة
أن الشابي لم يكن في حاجة لهذه النصيحة التي توجه بها المتنبي لأمراء عصره
ولم يقدمها للشعراء‏,‏ خاصة حين يكونون من طراز الشابي الرومانتيكي الواقف
في محراب الطبيعة يخاطب روح الكون‏,‏ ويصلي للحب ويبشر بالحرية‏,‏ فلم
يخطر بباله قط شيء مماكرهه المتنبي أو أحبه‏.‏ لا الزق والقينة ولا السيف
والفتك‏.‏

لم يكن أبو القاسم عابثا أو باحثا عن لذة عابرة أو مجد زائل‏,‏ وإنما كان يحلم بزمن أجمل وحياة حرة وانسان جديد‏.‏

لست ياأمسي أبكيك لمجد أو لجاه
سلبته مني الدنيا وبزتني رداه
فأنا أحتقر المجد وأوهام الحياه
‏
....‏

إنما أبكيك للحب الذي كان بهاه
يملأ الدنيا فأني سرت في الدنيا أراه

أمر
واحد يتفق فيه الشابي مع المتنبي هو تضريب أعناق الملوك لا لانتزاع
مابأيديهم من ملك وسلطان‏,‏ بل لتقويض نظمهم المستبدة وخلق حياة جديدة
ينعم فيها البشر بالحب والحرية والعدل والسلام‏.‏

ألا أيها الظالم المستبد
حبيب الظلام عدو الحياه
سخرت بأنات شعب ضعيف

وكفك مخضوبة من دماه
رويدك ألا يخدعنك الربيع
وصحو الفضاء وضوء الصباح

حذار‏!‏ فتحت الرماد اللهيب
ومن يبذر الشوك يجن الجراح‏!‏

من
يصدق أن قائل هذه الأبيات الرائعات لم يكن إلا شابا في العشرين أو نحوها؟
لقد ولد الشابي عام‏1909‏ ورحل عام‏1934‏ وهو في الخامسة والعشرين من عمر
كعمر الورد‏,‏ أنجز فيه مالا تنجزه أجيال كاملة‏.‏

إنك ترسل بصرك
قرونا وراء الشابي فلا تري مثيلا له‏,‏ ولا تسمع صوتا يذكر به أو يبشر‏.‏
حتي اذا ظهر لم يمهله الدهر ولم يعطه فسحة من الوقت يغني فيها وهو آمن علي
نفسه مطمئن الي مصيره‏,‏ وإنما اختطفه الموت كما يختطف الصقر عندليبا‏,‏
والغريب مع هذا أنه أكمل أغنيته التي لاتزال نرددها فتزداد علي الأيام
صدقا وعذوبة وروعة وجمالا‏.‏

ولهذا قلت في البداية إنه استطاع وحده
أن يهزم الدهر‏,‏ فقد جاء من الصمت وعوجل بالموت‏,‏ ومع هذا غني ومازال
يغني‏,‏ فباستطاعتنا أن نقول إنه غني خارج الزمن كما قال صلاح عبدالصبور
عن حبيبته انها كبرت خارج الزمن‏,‏ لأنه يراها دائما طفلة أو يراها دائما
بريئة‏.‏

والشابي الذي هزم الزمان هزم المكان أو تجاوزه‏,‏ فهو ليس
شاعر بلد فحسب‏,‏ وإن كانت تونس نشيده الدائم‏,‏ وإنما هو شاعر لغة لها في
المشرق مالها في المغرب‏,‏ ولها في الحاضر والمستقبل ماكان لها في الماضي
وأكثر‏.‏

ولقد نشأت وفي سمعي هدير المتظاهرين المصريين في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات يهتفون ببيت الشابي‏:‏

اذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر

هذا البيت الذي صار نشيدا قوميا يردده المشارقة والمغاربة والمصريون وغير المصريين‏.‏

وليست
العواطف الوطنية هي وحدها التي وجدت في شعر الشابي تعبيرا عنها‏,‏ وإنما
العواطف البشرية كلها‏.‏ الحب والافتتان بالطبيعة‏,‏ وتقديس الفن‏,‏
وعبادة الجمال‏.‏ ومن هو القاريء العربي الذي لايعرف قصيدة الشابي صلوات
في هيكل الحب‏!‏

عذبة أنت كالطفولة كالأحلام
كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء

كالورد كابتسام الوليد
يالها من وداعة وجمال
وشباب منعم أملود

يالها من طهارة تبعث التقديس
في مهجة الشقي العنيد
يالها رقة يكاد يرف الورد منها

في الصخرة الجلمود‏!‏

والواقع أن الشابي أحبنا كما أحببناه وعرفنا كما عرفناه‏.‏

كان
مفتونا بالمهجريين‏,‏ وفي قصائده وكتاباته النثرية آثار واضحة من جبران
وخليل نعيمة‏,‏ وفي كلامه عن التراث العربي القديم وعن الشعر والأدب
والمجتمع أصداء قوية من كتابات طه حسين والمازني وهيكل وأحمد زكي أبو
شادي‏,‏ أما العقاد فكانت له عنه الشابي منزلة خاصة كان يقول عنه إنه ذهن
جبار ولود‏,‏ وعبقرية نادرة خارقة‏.‏

ولقد عرف القراء العرب شعر
الشابي عن طريق مجلة أبوللو التي نشرت له عددا من أجمل قصائده‏,‏ واعتبرته
واحدا من جماعتها‏,‏ كما اعتبر هو نفسه واحدا منها‏.‏

لهذا نحتفل
بالشابي في مصر‏,‏ وقد خصصنا له أمسية في ملتقي القاهرة الدولي للشعر
العربي الذي سيفتتح أعماله في الخامس عشر من هذا الشهر‏.‏

كما علمت أن أمسية أخري ستخصص للشابي في مهرجان دبي الذي يفتتح اليوم‏..‏ والعام كله احتفال بالشابي وبالشعر‏!‏