أيام في نيويورك بقلم: د‏.‏ أحمد إبراهيم الفقيه

من طرف koko الأربعاء مارس 04, 2009 1:33 pm

أيام في نيويورك
بقلم: د‏.‏ أحمد إبراهيم الفقيه

لا
أدري ما الذي تغير في نيويورك اثناء الزيارة التي أقوم بها الآن‏,‏ عن
زيارة قمت بها منذ ثلاثين عاما‏,‏ حيث كان الرئيس الراحل السادات أيام تلك
الزيارة موجودا في كامب ديفيد يباشر مفاوضاته مع مناحم بيجين تحت إشراف
وضيافة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر‏,‏ وكانت الأجواء العربية في نيويورك
مشدودة إلي تلك المحادثات عند زيارتي لأصدقاء في علبة الكبريت الزجاجية‏,‏
والنقاش يدور ساخنا في الحلقات العربية الموجودة في كواليس المبني
الأمامي‏,‏ بين معارض ومؤيد حتي قبل الإعلان عن نتائج ذلك اللقاء‏,‏ ولاشك
أن مياها كثيرة قد مرت من تحت القناطر التي تشد المناطق الخمس التي تشكل
نيويورك إلي بعضها البعض‏,‏ ولا أجد أن المدينة علي مستوي الشكل قد
تغيرت‏,‏ فالاحساس بجلال الابراج التي تناطح السحاب ورهبة هذه الابراج لم
ينقصه اطلاقا الحادث الإرهابي الذي أزال أشهر وأطول برجين‏,‏ فهذه المدينة
تبقي برغم ذلك حالة من حالات التجلي لعبقرية العقل البشري‏,‏ ليس فقط في
جلال وبهاء وعظمة هذا المعمار‏,‏ ولا في نبوغ النظام الذي يجعل الزائر
يتجول في شوارعها بيسر وسهولة لا تتوافر حتي في اصغر قرية في العالم‏,‏
فالشوارع التي تمثل شكلا هندسيا تحمل ارقاما وتتقاطع مع بعضها البعض لا
تعطي فرصة للتوهان عن أي عنوان‏,

‏ وليس فقط احتفالها بالفنون إلي
حد ان خصصت لها اطول شارع في نيويورك هو شارع برودواي‏,‏ وهو ليس كله دور
عرض مسرحي وسينمائي وإنما جزء منه‏,‏ هو ذلك الذي يقع في قلب المدينة
قريبا من تايم سكوير‏,‏ ويضم أكثر من‏500‏ مسرح‏,‏ لأن ذيل الشارع يصل إلي
الضواحي البعيدة‏,‏ والمسرحيات التجارية الكبيرة خاصة الموسيقية
الاستعراضية تقدم مناظر تفوق الواقع ضخامة وفخامة‏,‏ وقد أغراني الطابع
الكلاسيكي القديم لإحدي هذه المسرحيات جنوب المحيط الهادي فقطعت تذكرة
لمشاهدتها لأنها مجلوبة من عالم الاربعينيات‏.‏ حيث عرضت لأول مرة في ذلك
العقد‏,‏ وهو ما اعتبرته علامة متعة ونجاح لانه يضمن لي غناء ينتمي إلي
ذلك العهد‏,‏ وليس غناء الفيديو كليب‏,‏ ومايكل جاكسون الذي لا أحسن
تذوقه‏,‏ ودفعت التذكرة الغالية التي تصل إلي مائتي دولار‏,‏ وذهبت لأجد
فعلا ما يتوافق واسم نيويورك وسمعتها‏,‏ فهناك شاطئ يزهو ويتفوق اناقة علي
كل الشواطئ‏,‏ وسفينة حربية تتفوق في جمالها علي سفن الاسطول الأمريكي‏,‏
ومعسكر أكثر مرحا وبهجة من أجواء المعسكرات الحقيقية‏,‏ وهكذا هي نيويورك
تجلب البيتزا من إيطاليا‏,‏ وتجلب الباتيه من باريس‏,‏ وتجلب الباهيتا من
المكسيك‏,‏ وتجلب الفول أو الطعمية من مصر‏,‏ والشيش كباب من أقطار الشرق‏,

‏
فتجد هذه الأكلات هنا قد اكتسبت طعما أكثر لذة‏,‏ وأحجاما أكثر إشباعا
وامتاعا‏,‏ وتذهب إلي المدينة الصينية في نيويورك فتجد مدينة أكثر جمالا
من مدن الصين الاصلية‏,‏ وتحفا أكثر بهاء وامتاعا‏,‏ ومأكولات أكثر لذة
وألوانا من الفن‏,‏ والتراث أكثر ثراء وغني مما يمكن لواحد مثلي تجول في
بلاد الصين‏,‏ وذهب إليها أكثر من مرة أن يراه هناك‏,‏ وهذا يحدث مثله مع
احياء إفريقية واسبانية‏,‏ وفنون من مختلف بلاد العالم‏,‏ فمدينة نيويورك
هي أكثر المدن الأمريكية استقبالا للغرباء الذين يهجرون اوطانهم إلي
أمريكا ويختارون نيويورك للإقامة‏,‏ وهناك لغات يتكلمها هؤلاء المهاجرون
ويتبادلونها في أسواقها ومحافلها تزاحم لغة البلاد‏,‏ وهناك زخم من
الثقافات والفنون والفلكلور وألوان من الآداب والمعارف والأفكار القادمة
من كل مناطق العالم‏,‏ يصعب وجود مثيل له في أي مكان آخر فوق البسيطة‏,‏
يتجاور في سلام وأمان‏,‏ ويصنع حالة إنسانية بالغة البهاء‏,‏ وقد جاء
هؤلاء الأغراب يلبون نداء تمثال الحرية والسيدة البرونزية التي تتربع فوقه
تحمل مشعلها‏,‏ ترحب بالغرباء الذين أتعبهم الرحيل‏,‏ وطوحت بهم السفن علي
شواطئ هذه البلاد تبشرهم قائلة‏:‏ إنهم وصلوا إلي أرض الأمن والهناء
والاستقرار‏,‏

وتتوزع إقامة هؤلاء الناس علي خمس مناطق أهمها
مانهاتن‏,‏ وهي وسط البلاد‏.‏ حيث الأحياء التجارية ودور الفنون وصرة
البلاد تايم سكوير‏,‏ ومقر الأمم المتحدة ثم تمتد الجسور تنقل الناس عبر
القناطر التي تمتد فوق أنهار تحيط بنيويورك‏,‏ وفوق مياه المحيط إلي جزر
تتبعها والمناطق الباقية هي‏:‏ بروكلين‏,‏ برونكس‏,‏ كوينز‏,‏ وجزيرة
ستيتن‏,‏ واستطيع أن أقول ان الانطباع الأول لزائر نيويورك من بلدان
العالم الثالث هو الوفرة‏,‏ فكل شيء موجود بكميات مهولة‏,‏ ويكفي ان تدخل
متجرا يبيع المواد الغذائية لتجد خضراوات العالم التي تنتج في كل
الفصول‏,‏ وكذلك الفواكه التي تخرج علي امتداد العام موجودة ومجلوبة من
أماكن اختلف فيها الطقس فانتجها في غير مواسمها المعروفة لدينا‏,‏ كذلك كل
نوع من السلع تجد له انواعا لا تحصي‏,‏ ويكفي أن تدخل ركنا يبيع الخبز في
متجر كبير فتجد نفسك وسط غابة من أنواع الخبز‏,‏ واشكاله لا حصر لها‏,‏
ولا تستطيع حتي لو أردت أن تعرف اشكالها في زيارة واحدة‏,‏ فهي مصنوعة
ايضا من مواد مختلفة‏,‏ فقد تكون شعيرا أو قمحا أو ذرة وشوفونا مما
نعرف‏,‏ وقد تكون من مطحون الموز المجفف أو غيره من مواد لا يعرفها أغلب
الناس‏,‏ ولعل هذه الوفرة

وهذه التنوع لا تقتصر علي نيويورك لكنها خاصية أمريكية تشترك فيها مع مدن أخري‏.‏

انطباع
آخر‏,‏ يخرج به الزائر لأمريكا‏,‏ سواء نيويورك‏,‏ أو غيرها من مدن وقري
أمريكية‏,‏ هو البشر والبشاشة والابتسام الذي يعلو وجوه الناس‏,‏ أنها
عملة يتعاملون بها ويتبادلونها مع بعضهم بعضا‏,‏ وهو أمر لعله لا يثير
حفيظة الزوار القادمين لأمريكا من عوالم غير العالم العربي‏,‏ لكن بالنسبة
لي أنا القادم من جفاف العلاقات في مدن الصحراء‏,‏ واساليب الخشونة
والغلاظة التي نعامل به بعضنا بعضا‏,‏ وجدت الأمر يثير عجبي وإعجابي‏,‏
ويجعلني أشعر بالأسف والأسي لما وصلت إليه العلاقات الإنسانية في بلادنا
العربية من درك‏.‏