العروبة بين المراجعة والمستقبل‏!‏ بقلم : السيد يسين

من طرف مشمش الخميس مارس 05, 2009 11:54 am

العروبة بين المراجعة والمستقبل‏!‏
بقلم : السيد يسين

هل
هي مصادفة بحتة ان تنعقد في بيروت في نفس الاسبوع تقريبا من‏23‏ فبراير
حتي‏28‏ من نفس الشهر ندوتان عن العروبة من زاوية المراجعة النقدية
لمسارها واستشراف مستقبلها في القرن الحادي والعشرين؟

لقد عقد مركز
دراسات الوحدة العربية أول ندوة في الموضوع عنوانها من اجل الوحدة
العربية‏:‏ رؤية للمستقبل عرضت فيها ابحاث بالغة الأهمية قدمها حسب تقاليد
المركز العريقة ـ باحثون من المشرق والمغرب والخليج‏,‏ وشاركت فيها نخبة
عربية مرموقة من المفكرين والباحثين الذين ينتمون إلي اجيال متعددة فمنهم
نخبة عربية مرموقة من المفكرين والباحثين الذين ينتمون إلي اجيال
متعددة‏,‏ فمنهم المخضرمون من امثال كاتب المقال الذين صاحبوا مركز دراسات
الوحدة العربية منذ نشأته‏,‏ وشاركوا بفعالية في مؤتمراته الكبري ومشاريعه
الرائدة‏,‏ ايمانا منهم ان مبادرة تأسيس المركز من الناحية القومية
والمعرفية معا كانت غير مسبوقة‏.‏

وقد صدقت توقعاتهم من المركز
الذي اداره منذ نشأته استاذ اكاديمي ومثقف قومي بارز هو الدكتور خير الدين
حسيب‏,‏ الذي استطاع بإدارة حازمة وحرص بالغ علي الجودة العلمية‏,‏ تأسيس
مكتبة معرفية عربية متكاملة في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية
والثقافية‏.‏

وقدم للمجتمع العربي اجيالا من الباحثين الشباب الذين اصبحوا اليوم اساتذة مرموقين‏.‏

غير
انه ـ بالاضافة إلي جيل الشيوخ من رموز الفكر القومي ـ شاركت مجموعة جديدة
من شباب الباحثين الذين قدموا اجتهادات فكرية مضيئة‏,‏ تبشر بالأمل‏.‏

وبالاضافة
إلي ندوة مركز دراسات الوحدة العربية نظم تيار المستقبل ندوة اخري بعنوان
مستقبل العروبة‏:‏ اي عروبة تصح في القرن الحادي والعشرين؟

وهذه الندوة كانت ندوة لبنانية اساسا شارك فيها عدد من المفكرين اللبنانيين‏,‏ بالاضافة إلي عدد من الباحثين العرب كنت واحدا منهم‏.‏

ما الذي دفع إلي ان تنعقد ـ في نفس الاسبوع تقريبا ـ ندوتان في نفس الموضوع وإن كان ذلك من زوايا مختلفة إلي حد ما؟

الاجابة علي ذلك بكل بساطة لأن العالم كله وليس المجتمع العربي فقط يعيش ما يمكن ان نطلق عليه عصر المراجعة‏!‏

وان
كانت مراجعة الأفكار والايديولوجيات مسألة مستمرة لاتتوقف‏,‏ فإن عصر
المراجعة بمعناه الحقيقي بدأ مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي‏,‏
ونهاية الحرب الباردة‏,‏ وسقوط النظام الثنائي القطبية‏,‏ وبروز النظام
الاحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية‏.‏

وهكذا بدأت عملية مراجعة جادة في المعسكر الفكري الماركسي علي مستوي العالم‏,‏ بما في ذلك العالم العربي‏.‏

ومن
ابرز محاولات الماركسيين الأمريكيين في مجال المراجعة الايديولوجية كتاب
عالم الاجتماع آرنسون وعنوانه الدال بعد الماركسية‏!‏ وقد قدم الرجل نقدا
ذاتيا لنفسه باعتباره ماركسيا مخضرما وعدد الاخطاء التي وقع فيها‏,‏ وان
كان قد انتهي بذكاء إلي نتيجة لافتة للنظر حقا حين قرر ان الماركسية لم
تنته‏,‏ وانما انتهي مشروعها الراديكالي لتغيير العالم‏!‏

ويقصد
بذلك ان الماركسية باعتبارها منهجا علميا لتفسير الكون والمجتمع مازالت
صالحة‏,‏ ولكن يبقي علي كاهل الماركسيين صياغة مشروع راديكالي جديد لتغيير
العالم‏,‏ اخذا في الاعتبار التغيرات الكبري التي لحقت ببنية المجتمع
العالمي‏,‏ وشرع هو نفسه في العمل‏,‏ ولذلك نجد القسم الثاني من كتابه
عنوان نحو مشروع راديكالي جديد‏!‏

وامتدت موجة المراجعة إلي
الماركسيين العرب‏,‏ وربما كان أكثرها جسارة محاولة المفكر اللبناني
المعروف كريم مروة في كتابه المهم حوارات والذي مارس فيه نقدا ذاتيا
شجاعا‏,‏ بالاضافة إلي سلسلة اعداد متواصلة نشرتها مجلة الطريق
اللبنانية‏.‏

ولم يفلت المعسكر الفكري الرأسمالي من قبضة المراجعة
الايديولوجية‏,‏ والتي بدأت قبل انهيار الاتحاد السوفيتي‏,‏ من قبل مفكرين
ذوي بصيرة تاريخية ممن ادركوا ان الرأسمالية‏,‏ بالرغم من نجاحاتها في
تجديد نفسها في الستينيات والسبعينيات فإنها لاسباب شتي لايمكن لها ان
تستمر إلي الابد‏!‏ ومن هؤلاء المفكر المعروف ليستر تورد الذي اخرج كتابه
بعنوان ما بعد الرأسمالية وربما كان تورد واقرانه من نقاد الرأسمالية
التقطوا الخيط مبكرا من العالم الاقتصادي الشهير الأمريكي النمساوي الأصل
شومبيتر والذي ذكر في احد كتبه المعروفة ان الرأسمالية تتضمن تناقضا
لايمكن حله يتمثل في جماعية عملية الانتاج وفردية الاستحواذ علي الفائض‏!‏

بمعني
ان عملية الانتاج التي يسهم فيها آلاف المهندسين والعمال والاداريين تنتهي
ارباحها في النهاية في جيوب عدد من الرأسماليين هم ملاك الشركات والمؤسسات
والمديرون‏.‏

ولعل ما يبرز صدق مقولة شومبيتر ماحدث بعد الازمة
المالية الأمريكية الكبري واضطرار الحكومة الامريكية إلي ضخ اكثر من‏700‏
مليار دولار لانقاذ البنوك والمؤسسات الكبري من الانهيار‏,‏ فقد تبين ان
ملاك الشركات والبنوك ومديريها بعد استلام نصيبهم من هذا الدعم الهائل
المتناقض لكل الافكار المقدسة في الرأسمالية صرفوا لانفسهم ـ بعد الازمة ـ
مكافآت بلغت احد عشر مليارا من الدولارات‏!‏ ولم يجد الرئيس أوباما غير ان
يعلق تعليقا هزيلا مفادة هذا عمل لا اخلاقي‏!‏ مع انه كان ينبغي تحويلهم
إلي محاكم الجنايات لتبديدهم اموال دافعي الضرائب ومنحها لانفسهم‏!‏

غير
ان الازمة المالية الكبري ولنقل بتعبير ادق الازمة الاقتصادية ستدفع بسرعة
عملية مراجعة الرأسمالية كمذهب اقتصادي من زاوية المنطلقات النظرية
والممارسات العملية معا‏,‏ ذلك انه لم يعد احد يستطيع ان يتبجح قائلا ان
حرية السوق مطلقة‏,‏ والدولة ينبغي كف يدها عن التدخل في الاقتصاد‏!‏

في
هذا السياق التاريخي‏,‏ ونعني عملية المراجعة الايديولوجية الكبري كان
طبيعيا ان تنشط مراكز الابحاث لكي تقوم بمراجعة مفهوم العروبة ذاته‏,‏
وتقيم الممارسات العروبية في النصف قرن الماضي‏.‏

وقد حاولت في إطار مداخلاتي في الندوتين ان ألفت النظر إلي أهمية تحرر المفاهيم اولا‏:‏

والعروبة
في نظري تشير إلي مفهوم الشخصية القومية العربية‏nationalcharacter‏ والتي
يمكن تعريفها بأنها هي نسق السمات النفسية والاجتماعية لشعب ما اولامة
ما‏,‏ والتي تتصف بالثبات النسبي عبر الزمن‏.‏

وهذه الشخصية
القومية تبلورت عبر الزمن نتيجة وحدة اللغة‏,‏ ووحدة التراث ووحدة النضال
في العصر الحديث لاستخلاص العروبة من اسار الامبراطورية العثمانية وعملية
التتريك‏,‏ من ناحية ووحدة النضال من أجل الاستقلال ومناهضة الاستعمار من
ناحية أخري‏.‏

اما القومية العربية فهي ايديولوجية سياسية حديثة
تدعو لأهمية التوحيد العربي في كيان سياسي واحد أيا كان نمطه بحكم القسمات
المشتركة‏.‏

واخيرا فالوحدة العربية هي الهدف السياسي الاساسي الذي تسعي القومية العربية إلي تحقيقه‏.‏

وليس
هنا مقام تتبع المراحل المختلفة التي مر بها الخطاب القومي الحديث
والمعاصر‏,‏ وان كنا نستطيع علي وجه الاجمال تقسيمها إلي مرحلتين‏:‏

مرحلة الخطاب القومي العربي التقليدي‏,‏ ومرحلة الخطاب القومي العربي الوظيفي‏.‏

المدخل
الاساسي للخطاب التقليدي سياسي‏,‏ لايركز علي المصالح المتبادلة ولكنه
يبدأ من الاعتبارات السياسية التي تفرض عملية الوحدة ـ كما انه مارس نقدا
عنيفا للدول القطرية باعتبارها من صنع الاستعمار الذي وضع حدودا مصطنعة
لانه كانت موحدة من ناحية‏,‏ ولان حكام الدول القطرية هم الذين يحاربون
مشروع الوحدة‏.‏

والواقع ان الحكم الأول ليس سوي اسطورة سياسية ليس
لها اي اساس تاريخي‏,‏ ذلك انه لم تكن هناك من قبل امة عربية واحدة قام
الاستعمار بتقسيمها‏!‏

كما ان النقد العنيف للدولة القطرية يتناسي
انها يطلق عليها ـ بحق ـ في المغرب العربي الدولة الوطنية والمقصود منها
الدولة الوطنية التي استطاعت بنضالات زعمائها وجماهيرها استخلاص نفسها من
براثن الاستعمار‏.‏

ومن ثم فالدولة القطرية لها شرعية سياسية مؤكدة‏,‏ وليست هي ـ كما يقرر الخطاب القومي التقليدي ـ السبب في عدم تحقيق الوحدة‏!‏

وقد
يكون السبب الحقيقي في مثالية الخطاب القومي العربي التقليدي الذي كان
يحلم بأمة عربية واحدة تتوحد في كيان سياسي واحد كدولة واحدة بعد اندماج
كل الدول القطرية فيها‏,‏ ولها رئيس واحد وعلم واحد ونشيد قومي واحد‏!‏

لقد
تجاهل هذا الخطاب القومي المثالي حقائق الجغرافيا واعتبارات التاريخ‏,‏
ولذلك فشلت ممارساته في التطبيق وعلي رأسها مشروع الوحدة المصرية ـ
السورية‏.‏

ونتيجة لهذا الفشل‏,‏ بدأت تظهر معالم خطاب قومي عربي
وظيفي مدخله اقتصادي وليس سياسيا‏,‏ وهو يركز اولا علي اعتبارات
المصلحة‏,‏ بحيث قدمنا مشروعا توحيديا اقتصاديا للدول القطرية لايمس
كيانها السياسي‏,‏ ولايهدد شرعيتها‏,‏ وانما يحقق مصالحها الاقتصادية إن
هذا المشروع قد يجد طريقه إلي النجاح‏.‏

وقد تبلور هذا المشروع في
القمة الاقتصادية التي انعقدت في عمان‏1980‏ والتي اعد بحوثها
واستراتيجياتها الاقتصادية نخبة من افضل العقول العربية‏,‏ واستقر الرأي
علي تخصيص ميزانية ضخمة للتنفيذ‏,‏ غير ان الارادة السياسية لم تتوافر
للأسف لتحقيقه‏.‏

غير ان المشروع قد تم احياؤه اخيرا في القمة
الاقتصادية التي انعقدت في الكويت مؤخرا‏,‏ والسؤال هل ينجح العرب اخيرا
في تحقيق التكامل الاقتصادي‏,‏ والذي قد يكون المقدمة الضرورية لاتحاد
فيدرالي عربي؟

سؤال مشروع لايمكن الاجابة عليه الآن‏,‏ لاننا نحتاج إلي اجل متوسط للحكم علي النجاح والفشل في تنفيذ قرارات قمة الكويت‏.‏

كانت
تلك وامثالها هي المشكلات التي اثيرت في بيروت‏,‏ والتي انتهت إلي نتائج
مهمة تستحق التأمل‏,‏ فقد كان هناك اجماع علي تأسيس دولة القانون
الغائبة‏,‏ وتطبيق الديمقراطية واحترام التعددية‏,‏ ومراعاة حقوق
الانسان‏.‏

غير انه أهم من ذلك كله كان هناك توجه إلي المستقبل
وذلك بالتركيز علي فئة الشباب العربي من حيث تقوية ذاكرتهم التاريخية
بتاريخ العروبة باستخدام الوسائط الاتصالية الحديثة‏,‏ بالاضافة إلي العمل
علي زيادة مشاركتهم السياسية ليس فقط في الانضمام إلي الاحزاب السياسية‏,‏
أو إلي منظمات المجتمع المدني‏.‏

ولكن اسهامهم ايضا في عملية صنع
القرار التي تحتكرها ـ للاسف الشديد النخب السياسية العربية الحاكمة في
عالم جديد يرفض الاحتكار ـ ويدعو إلي التعاون المشترك من أجل تقدم
المجتمعات الانسانية‏.‏