مدن الخيال وكوكب العشوائيات بقلم : محمد عيسي الشرقاوي

من طرف **ايمان** السبت مارس 07, 2009 1:35 pm

حكايـة سياسية
بقلم : محمد عيسي الشرقاوي

مدن الخيال وكوكب العشوائيات

عندما
بلغ الخمسين من عمره‏,‏ حمل أوراقه وكتبه‏,‏ وشد الرحال إلي بغداد
عام‏310‏ هـ‏..‏ وكانت درة حضارية يتوهج سناها بالفكر والثقافة إبان
ازدهار العصر العباسي‏..‏ وتتلمذ أبو نصر الفارابي علي أساتذة الفلسفة
والطب والموسيقي في عاصمة الرشيد‏..‏ ثم طاب له ان ينتقل الي دمشق وتفرغ
لتأليف كتبه‏,‏ وكان يأخذ نفسه بالشدة ويروض جموحها بالزهد والتقشف‏.‏

وكان
الفارابي يجيد لغات شتي منها اليونانية‏,‏ التي أعانته علي دراسة الفلسفة
اليونانية‏..‏ وبرع في التعريف بأرسطو المعلم الأول‏..‏ وهذا ما اعترف به
أقطاب الحضارة والثقافة الأوروبية‏..‏ ولذلك أطلقوا علي الفارابي لقب
المعلم الثاني‏,‏ تقديرا لدوره في النهوض بثقافتهم وإثراء حضارتهم إبان
طور انسلاخها من ظلمات القرون الوسطي الي اشراقات عصر النهضة‏.‏

وبدأ
الفارابي في أثناء اقامته في دمشق في تأليف رائعته في الفكر السياسي‏..‏
المدينة الفاضلة‏..‏ وكان متأثرا بجمهورية أفلاطون‏,‏ التي كانت فتحا
مبينا في تتويج فكرة العدالة علي عرش الكون كي يصير جميلا ونبيلا‏..‏ وكان
الفيلسوف اليوناني القديم افلاطون يود ان يكتب علي بوابات الجمهورية عبارة
نورانية‏..‏ هنا دولة العدالة‏..‏ ولامكان في دولة الحلم هذه للفساد
والإفساد‏,‏ وتحكمها قاعدة ذهبية هي تكافؤ الفرص‏...‏ ويتولي ادارة شئونها
حكام فلاسفة غايتهم وهدفهم تحقيق السعادة للجميع باعتبارها القصد والمنتهي
للحكم الرشيد والسياسة الحكيمة‏.‏

واستكمل الفارابي تأليف المدينة
الفاضلة إبان زيارته لمصر عام‏388‏ هـ وكان في نحو الثمانين من عمره‏..‏
ومات عقب عودته الي دمشق في العام التالي‏..‏

غير ان مدن الخيال
التي ابتدعها افلاطون والفارابي وتوماس مور لم يخب وهج حلم الانسان ببلوغ
مشارفها ذات يوم‏,‏ وإن طال الطريق اليها‏.‏

ولكن مالم يخطر ببال
أفلاطون والفارابي ان مدن الفردوس اللاتي تحاصرها الان بضراوة وشراسة مدن
العشوائيات‏.‏ وبرغم انذارات مخاطرها أثناء المؤتمر الأول للمستوطنات
البشرية عام‏1976,‏ فإن العشوائيات يتسع نطاقها‏,‏ ثم انفرط عقدها وصارت
وبالا وكارثة في زمن العولمة والرأسمالية الجامحة التي زادت الفجوة بين
أغنياء المنتجعات وفقراء العشوائيات‏.‏

وأثارت هذه الكارثة الكونية
قلق كاتب أوروبي هو مايك ديفيز‏,‏ ونشر عام‏2006‏ كتابا يقرع فيه أجراس
الخطر سماه كوكب العشوائيات وقال إن مدينة مومباي الهندية هي عاصمة
العشوائيات‏.‏ وكانت سان باولو في البرازيل تنافسها في عدد ملايين الفقراء
والمشردين الذين يعيشون في أكواخ من الصفيح والكرتون‏..‏ ولم تفلت القاهرة
من براثن العشوائيات‏,‏ التي تؤجج الغضب وتثير الجدل‏.‏

واللافت
للانتباه ان عاصمة العشوائيات صارت قصة خيالية عرضها فيلم مليونير
العشوائيات الذي حصد‏8‏ جوائز أوسكار‏2009,‏ ولم يكن الفيلم معنيا
بالعشوائيات‏,‏ وإن كان مخرجه البريطاني داني بويل قد برع في اختيار
ممثلين من المشردين وهما أظهر الدين اسماعيل ورابينا علي‏.‏

وتقافزت
أمامي وأنا أتابع أنباء الفيلم‏,‏ مدن الخيال وكوكب العشوائيات‏..‏ وبرغم
ان صدمة العشوائيات مروعة‏,‏ وتنذر بمخاطر كارثية‏,‏ فإن السبيل الوحيد
لوأد أهوالها وويلاتها هو إشاعة العدل علي نحو ما نادي به أفلاطون
والفارابي‏..‏ ولايزال حلم الانسان قائما‏..‏ هنا دولة العدالة‏.‏