مواقف الرسول .. في ذكري ميلاده ينتصر للعدل ولم يغضب لنفسه

في ذكراه صلي الله عليه وسلم.. يتوقف المرء طويلاً أمام مواقفه التي تمثل
لنا منهجاً ونموذجاً لمن أراد أن يسمو بروحه ونفسه ولمن أراد أن ينال
سعادة الدنيا والآخرة ولمن أراد أن ينجو بنفسه من الأباطيل والأضاليل وهي
كثيرة في عالمنا.

من هنا فإن تقديم قبس من مواقفه لتزداد أرواحناإشراقاً وقلوبنا بهجة.
ونفوسنا تقوي وحياتنا نوراً.. هو الاحتفال الحقيقي بمولده. وبزوغ نوره في
هذه الدنيا التي جاءها رحمة للعالمين.

يقول د. عزت عطية -أستاذ الحديث بجامعة الأزهر: إن ما حدث في صلح
الحديبية يعد من مواقف العظمة التي يجب أن يتوقف عندها الإنسان طويلاً.
فقد قال النبي "لا يسألوني خطة رشد إلا أجبتهم إليها وكان المسلمون
يتحمسون للحرب. وبايعوا النبي علي الموت وعلي الجانب الآخر قريش تأبي أن
تسمح للمسلمين بدخول مكة فاصطدم الطرفان في الموقف والعناد.

فقريش تريد المحافظة علي مكانتها بين العرب والمسلمون متمسكون بحقهم
في زيارة البيت الحرام. وبدأ عقلاء من المشركين يسعون إلي حل المشكلة.
وصار الواحد منهم يستأذن قريش للمفاوضة مع النبي ومنهم عروة بن مسعود
الثقفي وكان رجلا حصيفا وحضر اللقاءات مع الملوك. فقدم علي النبي
للمفاوضة. ومن حرصه كان يضع يده علي لحية النبي ليجذب انتباهه ولم يكن
الرسول يمتعض لأنه يريد السلام. فكان المغيرة بن شعبة يضرب علي يده ليبتعد
عن لحية النبي. وعندما عاد عروة إلي قريش قال لهم: لقد قابلت كسري وقيصر.
فما رأيت أحداً يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمداً.

وعندما بدأوا بكتابة ما اتفقوا عليه أملي رسول الله قائلاً: هذا ما
اتفق عليه محمد رسول الله. فوقف أحد المشركين وقال: لو نعلم أنك لرسول
الله لاتبعناك. فأمر النبي بإصلاح ما تم كتابه. فثقل ذلك علي علي بن أبي
طالب ثم أخذ النبي الكتاب وكتب محمد بن عبدالله.

ويعلق الدكتور عزت بقوله: إنه لولا طيب نفس النبي وحرصه علي المسالمة
وعدم انسياقه مع عواطف الجمهور في مثل هذه المواقف التي يمكن استثارتهم
فيها لمصلحة الصراع. لما استجاب لمثل ذلك. خاصة ان الشروط في ظاهرها لصالح
الكفار. وفي باطنها لمصلحة المسلمين والتي كان منها أن يرد النبي إلي
الكفار من قدم منهم. وألا يردون علي النبي من قدم عليهم من المسلمين. وثار
سيدنا عمر بن الخطاب لذلك. وقال: لماذا نعطي الدنية في ديننا ونقبل ما ليس
فيه عدل؟ لكن النبي قال: "والله إني رسول الله ولن يضيعني وأصر علي رأيه".

اكد د. عطية أن النبي لو كان يعتمد في قيادته علي المسلمين علي
التيار الشعبي أو الرضا الجماهيري لما أصر علي ما فيه المصلحة معارضا
التيار العام.

أضاف ان الحادثة انتهت بفرج كبير للمسلمين فلم يحصل اشتباك وأخذوا
وعداً حازماً بأن يدخلوا مكة في السنة التالية وحفظ الاتفاق لقريش
مكانتها. وانها لم تفرط في حفظها للكعبة ودخل الناس بعدها في دين الله
أفواجا.

قال د. عطية: إن ما حدث في صلح الحديبية مثل للحوار والتفاعل بين
المسلمين وغير المسلمين ويعتمد علي رعاية حقوق الغير. وحقوق المسلمين علي
أساس من البصيرة النافذة التي تحقق المصلحة من أيسر طريق وتضبط الفوران
الشعبي من أن يطغي علي الحقائق الأساسية أو أن يورط المسلمين فيما لا خير
لهم فيه مع تطييب النفوس وإصلاح القلوب وإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي
أن القيادة تحتاج إلي اتساع الأفق واستيعاب المواقف وحسن التصرف في إطار
المصلحة العامة وإن لم يظهر السر الحقيقي للتصرف في بعض المواقف وقت
الانفعال والهياج.

يقول د. عبدالمهدي عبدالقادر أستاذ الحديث: إن من المواقف التي نحن
في حاجة إلي تأملها ودراستها في ظروفنا الحالية انه ما كان ليغضب أبداً.
وروي عن أنس قال: خدمت رسول الله صلي الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي
أف قط. ولا قال شيئاً قط.. لِمَ صنعته؟.. ولا شيئا تركته.. لِمَ تركته؟..

وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما ضرب النبي امرأة ولا
خادماً. وإنما كان يغضب لله. فإذا ما انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله
وليس لنفسه.

يضيف.. أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يكن لينتقم لنفسه مهما كان
الفعل قاسيا. وكان كما قال تعالي: ادفع بالتي هي أحسن" بمعني ان كان يقابل
السيئة بالتي هي أحسن. فكان خلقه لا يغضب ولا ينتقم لنفسه. وإنما يعفو
ويصفح".

يضيف.. ان هذا الخلق من النبي كلما تقدمت بي السن اتخذه منهجاً. فإذا
ما غضبت استشعر تعبا شديدا في جسمي. والنبي عندما ينصحنا بالبعد عن الغضب
فإنه يبعدنا عن كثير من الأمراض التي يمكن أن يصاب بها الإنسان. وما يمكن
أن يحدث من إيذاء للغير في حالات الغضب وذلك فيه إراحة لجميع الأطراف سواء
الزوج أو الزوجة أو الأب والابن وبهذا تستقيم الحياة.. فقد روي عن النبي
أنه جاءه رجل وقال: يا رسول الله.. أوصني. قال النبي: لا تغضب. وهذه
الوصية الموجزة والعظيمة لكل من يعرف ما قد يحدث له في حالة الغضب. وما
يعود عليه من أضرار قد تؤدي إلي قتله أو إصابته في عقله وشرايينه.

ومن المواقف أيضاً ما كان منه عندما جاءه يوما فقير. وقال: يا رسول
الله: إني لا أجد ما أطعم به أولادي. فقال له: اذهب فاشتري والثمن عليَّ..
فاستغرب عمر. وقال: ما كلفك الله بهذا يا رسول الله. أتعطي وليس عندك أو
لا تملك. فغضب النبي من عمر. فقال بلال: أنفق ولا تخشي من الله إقلالا.

هذه صورة من صور كرم النبي وليت المسلمين يتعلمون هذا الكرم النبوي.
خاصة مع الفقراء. وما يجب أن يكونوا عليه في حياتهم مع الفقراء الذين لا
يجدون ما يسدون به رمقهم.

يقول د. ناصر أبو عامر أستاذ الحديث بالأزهر جاء يهودي يدعي زيد بن
ثعنه إلي رسول الله وكان له دين علي النبي. وأراده قبل أجله. واعترض طريق
النبي في المدينة. وقال: إنكم يا بني عبدالمطلب قوم مطل. ورأي عمر بن
الخطاب ذلك. وهم بمعاقبة الرجل. فالرجل يشتم رسول الله ويتمهه بما ليس
فيه. فمنع النبي عمر. وقال: يا عمر.. كنا أحوج إلي غير ذلك منك يا عمر.
أما أنا فمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن الطلب.. اذهب يا عمر فاقض حقه وزد
عشرين صاعا. وكان من نتيجة ذلك أن أسلم اليهودي. وشهد بقية المشاهد مع
رسول الله صلي الله عليه وسلم.

وكان سبب الحادث أن زيد بن ثعنه كان يعرف من علامات النبوة كل شيء.
إلا اثنتين. وهما أن يسبق حلمه جهله. ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا
حلماً.. فتعلم كيف يتعامل بحنكة وروية.. من المهم أن نتذكرها في مولده.
لأن بها فقها عظيما في حسن المعاملة فيما يتصل بسداد الدين. وما ينبغي
للمؤمن أن يتصف به من حسن الأداء وحسن الطلب. وهذا الخلق العظيم من النبي
صورة حية لما يجب أن يكون عليه الإسلام وأتباعه من التحلي بآداب وخلق
النبي. مصداقاً لقوله تعالي: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه
عداوة كأنه ولي حميم".

قال د. ناصر: إن من المواقف التي لابد للمسلمين أن يتذكروها في ذكري
مولد النبي صلي الله عليه وسلم عندما دخل عليه أعرابي. ووجد النبي يقبل
الحسن والحسين. فقال: إن لي عشرة من الأبناء ما قبلت أحداً منهم قط.. فقال
له النبي: وماذا أفعل وقد نزع الله الرحمة من قلبك.. فالنبي كان يتصف بحسن
الخلق والرحمة والشفقة مع الناس جميعا. ومع الأطفال بخاصة.

ومن ذلك أيضاً أنه جاء يوماً أعرابي إلي النبي فأعطاه. فقال له النبي
هل أحسنت؟ فقال الأعرابي: لا أحسنت ولا أجملت. فغضب المسلمون وقاموا إليه.
وأرادوا أن يضربوا عنقه. فأشار النبي أن كفوا.. فذهب لمنزله وأرسل إليه
عطاء آخر. وقال: هل أحسنت؟ قال: نعم.. والنبي في هذه الحادثة كان حريصا
علي تآلف القلوب. وإزالة ما في النفوس من بغضاء وكراهية.

وقد علق النبي علي هذه الحادثة بقوله: مثلي ومثل هذا.. مثل رجل له
ناقة شردت عليه. فاتبعها الناس. فلم يزيدوها إلا نفورا. فناداهم صاحبها:
خلو بيني وبين ناقتي. فإني أرفق بها منكم وأعلم. فتوجه إليها وأخذ من
حشائش الأرض فردها. و استناخت وشد عليها رحلها. واني لو تركتكم حيث قال
الرجل ما قال.. لقتلتموه ودخل النار.. فالنبي كان شديد الحرص علي أن يحقن
الدماء. وأن يجعل القلوب صافية فما كان يغضب لنفسه أبداً.

وفي تعليقه يقول الدكتور ناصر: إن هذه الرواية تلفت الأنظار لمن
ينتهكون حرمات الله بكل كبر وخيلاء ولا حرج لديهم عندما يغضبون لأنفسهم
ولا يغضبون لله والنبي أراد أن يثبت المثل العليا في نفوس أصحابه بما كان
يصنعه مع أصحابه ومع الآخرين.

ومن المواقف التي ذكرها د. ناصر.. حادثة فضالة بن عمير الليثي الذي
ذهب قاصدا قتل النبي وهو يطوف. فلما دنا من النبي قال له النبي أفضالة؟
قال: نعم. قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء. كنت أذكر الله. فضحك
النبي لأنه كان علي الكفر. فقال النبي: استغفر الله ثم وضع يده علي ظهر
فضالة. فسكن قلبه. وأسلم بعدها. وهذا الموقف يحمل فيضا من كرم وسماحة
النبي ومقابلته السيئة بالحسنة. وأمام هذه الرسالة يؤكد النبي أنه لا مكان
لنزغات النفس وما كان ينتصر لنفسه ولا غرابة أن نري النبي وهو يلزم نفسه
بالتواضع وذلك فيه من دلالة علي استعانة المربي والمصلح بالله وأن يكون في
عبادة وأن يكون موصولا بالله حتي يفتح بها الله أبواب الاصلاح والخير
وتيسير الأمور. وفيها نري كيف قابل النبي رغبة القتل بالابتسامة والصفح.

مشكور كتير على هالموضوع