الاحتفال بالذكري

في الاحتفال بذكري مولد النبي الخاتم صلي الله عليه وسلم يتسابق المؤمنون
في إبداء مشاعرهم نحو النبي الذي أرسله الله إلي البشرية بعامة. فقد كان
كل نبي سابق يرسل إلي قومه خاصة. فلما سهل الاتصال بين الناس عن ذي قبل
بعث الله هذا النبي الذي ليس بعده نبي. وكان هذا إشعاراً للناس علي أن
يلتفوا جميعاً نحو فكر واحد جاء إليهم من السماء ليكونوا علي قلب رجل واحد
في الإخاء والتعاون والحب. ولكن الناس تفرقوا شيعاً وأحزاباً. وعلي الرغم
من أن الأنبياء جميعاً اتفقت دعوتهم الناس إلي عبادة الله وحده إلا أن
تفرق أقوامهم اقتضي أن يكون لكل قوم نبي حتي يسهل اتصال كل نبي بمن يدعوهم
إلي عبادة الله وحده. فلما أصبحت البشرية في تقارب مكاني حيث يسهل الاتصال
بينهم أرسل الله رسوله الخاتم وأوحي إليه كما أوحي إلي الأنبياء قبله.
لكنه أنفرد بينهم بأنه نبي للبشرية جمعاء. وهذا منطق إلهي سديد. فليس من
المعقول أن يكون الله واحداً لا شريك له. ثم يرسل أنبياءه برسالات بينهما
اتفاقات لكن بينها نقاط خلاف. وصحيح أنه فقط الخلاف هذه لا يؤثر في
الاتفاقات بين الرسالات. لكنها موجودة لتلائم كل رسالة طبيعة حياة القوم
المكلفين بها. فرسالة عيسي عليه السلام تختلف في بعض العبادات عن رسالة
موسي عليه السلام. وعن رسالات غيره من الرسل. لكنها جميعاً تتفق في افراد
الله بالعبادة وصولاً إلي رسالة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. وإذا
كانت رسالة الله إلي الناس بدأت بنبي هو إبراهيم عليه السلام. فليس
معقولاً أن تظل مفتوحة إلي نهاية الحياة. وإنما من المنطقي أن يكون لها
ختام يعني تمامها. وكان هذا الختام من نصيب سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم
نصيباً مقرراً مفروضاً من الله سبحانه وتعالي وهو يخلق البشرية ويقدر
أقدارها وما يكلفها به.

وليست رسالة النبي الخاتم تعني ختام الرسالات بلا مضمون تنفرد به عن
الرسالات السابقة. وقد جاء هذا المضمون في أنها عقيدة وشريعة. فالعقيدة
تتصل بالإلهيات والنبوات والشريعة تتصل بالعبادات والمعاملات والعلاقات
بين الناس. كما تتصل بالمقررات علي الناس من جزاءات بالخير علي ما يعملون
من خير ومن جزاءات بالعقاب علي ما يخالفون به أوامر الله ونواهيه. وقد
جاءت هذه الرسالة الخاتمة تقرر ذلك كله. وفي القرآن والسنة بيان لذلك.
فهما المصدران الأولان للتشريع الذي فتح مجالاً لاجتهاد أهل العلم فيما لم
يرد فيه نص من قرآن وسنة. والدليل علي ذلك الحكم بالظلم والكفر والفسق لمن
لم يحكم بما أنزل الله. والاجتهاد الصحيح لابد أن يستند إلي القواعد
الثابتة المنصوص عليها في الكتاب والسنة. وعندما بعث رسول الله صلي الله
عليه وسلم صاحبه معاذ إلي اليمن سأله فيما يقضي به بين الناس. فقال: أقضي
بما في كتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم
تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب النبي صلي الله عليه وسلم علي صدره
ضربة حنان وتقدير قائلاً: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلي ما يرضي
الله ورسوله. ولم يكن معاذ يفرض رأياً من عنده. وإنما يرد رأيه إلي
القواعد الثابتة والأحكام الكلية التي في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله
عليه وسلم.

وفي خطبة الوداع التي القاها رسول الله صلي الله عليه وسلم في
المسلمين يوم الحج الأكبر قوله: "لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
بعدي أبداً. كتاب الله وسنتي" وفي رواية عضوا عليهما بالنواجز. والنواجز
هي الأسنان التي تفصح عنها الشفتان عند فتحهما لكلام أو ابتسام أو بكاء.
وهي التي تستقبل الطعام أول دخوله إلي الفم. وهي التي تقضمه في أول عملية
من عمليات المضغ تمهيداً للهضم في المعدة وهذا يعطي معني الإمساك بالكتاب
والسنة والالتزام بهما التزاماً كاملاً. ومعني ذلك أن الرسول صلي الله
عليه وسلم ترك لنا خط السير الذي نسترشد به في مسيرة الحياة والذي يتضمن
الكتاب والسنة معاً. ولا يجوز الاقتصار علي واحد منهما دون الآخر. فرواية
القرآن جاءت بالسنة. لأن الذي رواها هو الرسول صلي الله عليه وسلم. ولذلك
جاءت السنة شافعة للقرآن في ترتيب التمسك التشريعي. أخذاً من قول رسول
الله صلي الله عليه وسلم. ومن الدليل علي ذلك قوله: "ألا وإني أوتيت
الكتاب ومثله معه" ومثل الكتاب هو السنة من أفعال الرسول صلي الله عليه
وسلم وأقواله وتقريراته.

وإذ كنا نحتفل في هذه الأيام بذكري مولد رسول الله صلي الله عليه
وسلم فإن أعظم مظاهر هذا الاحتفال هو الحفاوة بما جاء به إلي البشرية
جمعاء من كتاب وسنة استمساكاً بمقرراتهما وعملاً بما فيهما من أوامر
وانتهاءً بالنواهي التي جاءت بهما. والقياس علي كل ذلك فيما يجد من أمور
الحياة. وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم.