من أشرف المعارك التي تخاض‏!‏ بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

من طرف **محمد** الإثنين مارس 09, 2009 12:04 pm

من أشرف المعارك التي تخاض‏!‏
بقلم : د‏.‏فوزي فهمي

ضربت
الزلازل مدينة كيوتو عاصمة اليابان القديمة‏,‏ فتفككت مبانيها‏,‏ وتردت
أوضاعها‏,‏ وتلاحقت فيها خسارات الأشياء ذات القيمة‏,‏ وطال الخراب بوابة
راشومون الواسعة التي شيدت عام‏789‏ م‏,‏ فتصدع معمارها وتداعي‏,‏ وانهارت
أعمدتها وتناثرت‏,‏ وأهملت البوابة وتركت علي حالها‏,‏ وأصبح أمر
استعادتها غائبا‏,‏ لذا فإن الثعالب والثعابين وغيرها من الحيوانات‏,‏
اتخذت من شقوقها وصدعوها جحورا لها‏,‏ كما وجد فيها اللصوص مأوي لهم‏,‏
وصار مألوفا أن تلقي فيها جثث الموتي غير المطلوبين‏,‏ ومن دون
مواراتها‏,‏ فغدت البوابة محض مقبرة مكشوفة‏,‏ تتعاقب عليها نهارا
الغربان‏,‏ وعند المساء يخيم عليها جو من الأشباح‏,‏ فلا يجرؤ أحد علي
الاقتراب منها‏,‏ بوصفها منطقة عشوائية‏,‏ فقدت معناها وغايتها‏,‏
وارتباطها بنظام المدينة‏,‏ بل مضادة لنظام المدينة‏,‏ وتمثل خطرا علي
استقرارها‏.‏

لا خلاف أن المعارف عن الظواهر الاجتماعية والطبيعية
لا تقف عند اكتشافها‏,‏ إذ تقيم هذه المعارف بقدر إخصابها للوصول إلي
وسائل مراقبة‏,‏ وآليات وقاية واتقاء للحد من التأثيرات السلبية لهذه
الظواهر في المجتمع‏.‏ تري هل كانت المعارف تعيش في دائرة مغلقة‏,‏ ولا
تشكل وعيا منتشرا يواجه تلك التأثيرات؟ وإذا ما كان صحيحا أن الزلازل قد
افترست مباني المدينة‏,‏ تري هل يمكن أن تفترس أيضا إرادة الاقتدار لدي
مواطني المدينة‏,‏ تلك الإرادة التي تتمترس خلف حدود المباني والأشياء؟ هل
يمكن أن يتشتت البناء النفسي والذهني لمواطني المدينة‏,‏ ذلك البناء الذي
يشكل خياراتهم‏,‏ ويوجه تحركهم للاشتباك مع التحديات‏,‏ وعيا بمصيرهم‏,‏
وتطلعا إلي مستقبلهم‏,‏ بتجاوز مشكلاتهم التي لا تحتمل الارجاء؟

تحت
اطلال بوابة راشومون‏,‏ وفي أمسية مشحونة بالبرد القارص‏,‏ والمطر المتدفق
بلا انقطاع‏,‏ جلس محتميا من حصارهما خادم لأحد فرسان الساموراي‏,‏ وكان
يحاصره أيضا عارض طاريء ألم به فأربكه‏,‏ لذا غاص ممعنا الانتباه لذلك
الدمل المتقرح الذي أصاب خده فجأة‏,‏ فسكنته مرارات الأوجاع‏,‏ وأيضا
توترات عجزه عن الاستنجاد بوسيلة ناجحة للشفاء‏.‏ تري هل يجسد عجزه دلالة
سلبية تشير إلي افتقاره القدرة علي توسيع تقنيات تفكيره؟ كانت آليات تفكير
الخادم غير مهيأة لترشيح أية خيارات‏,‏ بحكم أنها أسيرة الاعتياد‏,‏ فلم
تسعفه بما يجب عليه أن يفعله بسوي تكرار ما كان يمارسه من قبل‏,‏ فقد كان
معتادا في مثل هذه الحالات أن يعود إلي منزل سيده الذي يعمل في خدمته منذ
سنوات طويلة‏,‏ لكن سيده قد استغني عن خدماته‏,‏ بسبب التدهور السريع الذي
لحق بالمدينة‏.‏ إن هذا الاستغناء قد دفع الخادم إلي مناجاة نفسه في شأن
وضعه الحالي‏,‏ حيث تبدت ملامح مناجاته مختزلة في سؤاله عن كيفية تدبره
قوت غده‏.‏ صحيح أن السؤال عن الغد هو سؤال عن المستقبل‏,‏ لكن الصحيح أن
المستقبل مشروع استحقاق للوجود هو قيد الانجاز‏,‏ ومرهون دوما بمن يتحرك
نحوه‏.‏

تري هل سيبادر الخادم ويندفع نحو المستقبل بوصفه مشروعا
لاستحقاق الوجود؟ لقد جلس الخادم متنطعا وسط المناخ العشوائي للبوابة وهو
في حيرة من أمره‏,‏ ولا يدري إلي أين يذهب‏,‏ إذ صار الاعتياد لديه
إدمانا‏,‏ فقد ثبتت العادة استعداداته‏,‏ وضيقت خياراته لعلاقات وأوضاع
جديدة‏,‏ وأغلقت أمامه الممكنات‏,‏ ونفت عنه القدرة علي التكيف مع
التغيير‏,‏ فحجرت بذلك علي عقله وحريته‏,‏ وحرمته من أية محاولة واعية
لتقصي الراهن بحثا عن مشروع مستقبل بديل لعمله الذي فقده‏,‏ وذلك ما تجلي
في عجزه عن معالجة التقرح الذي أصاب خده‏,‏ وعجزه أيضا عن مواجهة أوضاع
حياته المستجدة‏,‏ فولد العجز لديه رهابا نفسيا وقلقا‏,‏ إذ أصبح الخوف من
الموت جوعا يشكل تهديدا لبقائه‏,‏ ويضعه أمام خطر الموت‏.‏ هزمته مخاوفه
فتصور أنه اذا اختار وسيلة شريفة للحياة‏,‏ التي تعني عملا‏,‏ وجهدا‏,‏
ونشاطا إنسانيا يرتبط بمنظومة قيم استحقاق الوجود‏,‏ فإنه بالتأكيد سيموت
جوعا بجوار جدار أو بالوعة‏,‏ ثم يؤتي به إلي إلي هذه البوابة‏,‏ ويطرح
فيها كالكلب الضال‏,‏ أما إذا قرر أن يسرق‏,‏ فإنه لا ريب سيصون حياته‏,‏
وينجو من الموت جوعا‏,‏ متخذا من البوابة مأوي يعيش فيه مثل بقية اللصوص‏.‏

حدد
الخادم خياره بأن يكون لصا‏,‏ وقرر أن يقضي الليل تحت البوابة بين الموتي
ليستجمع شجاعته‏,‏ وفجأة سمع حركة‏,‏ وشاهد شخصا يتنقل مصحوبا بضوء
مرتعش‏,‏ فأصابه الرعب‏,‏ لكنه تقدم بحذر إلي داخل البرج‏,‏ فشاهد جثث
الموتي نساء ورجالا‏,‏ ثم لمح امرأة عجوزا تحمل في يدها مشعلا منحنية علي
جثة امرأة راحت تسل الشعر الطويل من رأسها شعرة فشعرة تضاءل خوفه‏,‏
وازداد كرهه للشر‏,‏ وتحديدا للعجوز التي تسرق الشعر من الجثة‏.‏ لم يرد
علي ذهنه أنه قرر أن يصبح لصا‏,‏ لكن لو أن أحدا طرح عليه في تلك اللحظة
السؤال الذي طرحه علي نفسه من قبل‏,‏ عما إذا كان يرتضي الموت جوعا أو أن
يصبح لصا‏,‏ لما تردد أن يختار الموت‏.‏ انقض الخادم علي المرأة العجوز
وقد أشهر سيفه وطرحها أرضا وهي تقبض علي الشعر في يدها‏,‏ وطلب إليها أن
تفسر له ما تفعل‏,‏ فأخبرته أنها تسل الشعر من النساء الموتي كي تصنع
الباروكات‏,‏ لتبيعها من أجل الطعام‏.‏ تبدي احتقاره لها‏,‏ لكن المرأة
الشمطاء رفضت احتقاره‏.‏

ولكي تخفف من واقع ما تفعله‏,‏ ولتضفي
عليه معني‏,‏ راحت تدعي أن ما تفعله لا يعد إثما‏,‏ مبررة ذلك بأن كل
الموجودين تحت البوابة يستحقون السرقة‏,‏ وأشارت إلي جثة المرأة التي سلت
شعرها بأنها في حياتها اعتادت بيع لحم الثعابين المجفف للناس علي أنه سمك
مجفف‏,‏ ولو لم تمت لظلت تبيعه‏,‏ وتبرر العجوز أن المرأة مع ذلك لم ترتكب
خطأ‏,‏ إذ أنها حتما كانت ستموت جوعا لو لم تفعل‏,‏ حيث لم يكن لديها خيار
آخر‏,‏ وكأن العجوز بذلك قد جعلت التبرير سيد الساحة‏,‏ وسندا لكل زائف
عند المساءلة عن مشروعيته‏.‏ قبض الخادم علي رقبتها بشدة‏,‏ معلنا لها أنه
سيكون علي حق إذا سرقها‏,‏ إذ أنه اذا لم يسرقها فسيموت جوعا‏.‏ وعلي
الفور نزع عنها ملابسها‏,‏ وركلها فوق الجثث‏,‏ وحمل ملابسها مندفعا في
هوة الليل‏.‏

إن الكاتب الياباني ريونوسكي أكوتاجارا‏,‏ في قصته
راشومون‏,‏ كشف أن حالة العطالة والقصور الذاتي‏,‏ تدفع الفرد إلي متاهة
يمارس في ظلها أقرب الوسائل وأقلها جهدا لتحقيق احتياجاته‏,,‏ دون مبالاة
بأية معايير خارج انهمامه بذاته‏,‏ متنكرا للقيم العامة ونظم مجتمعه‏,‏
مغتالا لحقوق الآخرين من دون مشروعية‏,‏ بوصفه خلاصا‏,‏ إذ عندما يسود
التبرير الذاتي فإنه يحجب إدراك الشر حتي في حضوره‏,‏ ويدفع إلي السلوك
العشوائي‏,‏ فالخادم قد انهارت لديه المعايير وتداعت‏,‏ تماما مثلما تداعي
أمام الزلازل معمار البوابة‏,‏ وكما فقدت البوابة بحكم عشوائيتها ارتباطها
بالمدينة ونظامها‏,‏ أصبح الخادم كذلك عشوائيا‏,‏ لا يرتبط بالمدينة‏,‏ بل
صار مضادا لها‏.‏ ولا شك أن القصة تبرز الفقر متجليا في قصور القدرات
والحرمان من الاستحقاقات‏,‏ وهما ما يدفعان إلي المتاهة‏.‏ والسؤال المضمر
الذي يطرحه الكاتب‏:‏ كيف يتمكن المرء من القضاء علي تلك المتاهة؟
والاجابة المسكوت عنها في القصة تتحدد في مناهضة الفقر من حيث هو جوع‏,‏
وافتقار للمأوي‏,‏ وخوف من المستقبل‏,‏ وحرمان من العمل والتعلم‏,‏ وغياب
الدعم الاجتماعي والثقافي‏,‏ وهشاشة مظلات الحماية‏.‏

ولا خلاف أن
الخطة التي تدارسها وأقرها المجلس الأعلي للسياسات لمكافحة الفقر علي
مستوي محافظات مصر‏,‏ تعد مبادرة ذات صياغة استراتيجية ترتكز علي
التنمية‏,‏ بوصفها أداة أساسية لمناهضة الفقر‏,‏ تستهدف مواجهة الإقصاء‏,‏
والعجز‏,‏ والخوف‏,‏ والإفقار‏,‏ تحقيقا للانتماء‏,‏ والتمكين‏,‏
والحماية‏,‏ والإنصاف‏,‏ واكتساب المعارف‏,‏ وبناء الوعي‏,‏ وتتخذ هذه
الخطة أطرا معاصرة لسياسات إعادة التوزيع‏,‏ ومناهضة الفقر‏,‏ تأمينا
للأوضاع الحياتية للفقراء‏,‏ أحدث عناصرها حق العمل‏,‏ وحق العناية‏,‏
والحق في مناخ العدالة الاجتماعية الذي يحمي المجتمع من الدوار‏,‏ ويتخطي
به متاهة أن يفترس أفراده الفقر‏.‏ وتظل مكافحة الفقر من أشرف المعارك
التي تخاض‏,‏ من أجل التفتح الانساني والازدهار‏,‏ والقدرة علي البقاء‏,‏
وارتقاء نوعية الحياة‏.‏