العزلة وراء أسوار شفافة بقلم : د‏.‏ حمدي حسن ابوالعينين

من طرف tooooot الثلاثاء مارس 10, 2009 12:15 pm

العزلة وراء أسوار شفافة
بقلم : د‏.‏ حمدي حسن ابوالعينين

حاول
تاريخنا الطويل أن يعلمنا الكثير من الدروس‏,‏ فنجح حينا وفشل أحيانا‏,‏
ولو أن التاريخ نجح أكثر لكان واقعنا اليوم أفضل‏,‏ ومن الدروس التي فشلنا
في أن نتعلمها من التاريخ أن الآخرين ليسوا مصدرا للشر والخطر علي
الدوام‏,‏ ففيهم من الخير مثل ما فيهم من الشر‏,‏ والاختيار مسئوليتنا‏,‏
والذي ينكر علينا ذلك عليه أن ينظر حوله ليري نصيبنا من التطورات الهائلة
السلبية والايجابية التي تموج بها الحياة المعاصرة للآخرين من حولنا‏,‏
ولماذا رضينا من المدنية المعاصرة بقشورها؟

عبر التاريخ الطويل
ارتبط واقعنا صعودا وهبوطا بقدرتنا علي الانفتاح علي فكر الآخرين
وتجاربهم‏,‏ نتفاعل معها ونستفيد منها ونضيف إليها كانت أكثر فترات
تاريخنا رخاء وازدهارا تلك التي فتحنا فيها أبوابنا وعقولنا لما يدور
حولنا‏.‏وكانت أكثر فترات تاريخنا تخلفا وانحطاطا تلك التي انكفأنا فيها
علي أنفسنا فانعزلنا عما يجري هنا وهناك فتراجعنا كثيرا عن ركب الحضارة
الذي لا ينتظر أحدا‏.‏ جاءنا الهكسوس وهم غزاة بالعجلات الحربية فأخذناها
ومكنتنا من بناء امبراطوريات قديمة‏.‏ وجاءت مع اليونان الفلسفة
والرياضيات فأصبحت الاسكندرية منارة الحضارة في حوض البحر المتوسط
والعالم‏,‏ وأدخلنا العثمانيون عصر المدافع وكنا نظن أن المدافع لا تصنع
بطولات ولا تصلح آلة للحرب في يد الفرسان‏.‏ وانتبهنا لما يجري خارج
أراضينا مع الحملة الفرنسية بعد قرون العزلة والتخلف في ظل الخلافة
العثمانية‏.‏ زرعنا مع محمد علي في أرضنا ما لم نزرع‏,‏ وصنعنا مع الخبراء
الذين استقدمهم ما لم نكن نعرف‏.‏ وجاءتنا بعثاتنا الي أوروبا بقائمة
طويلة من الأفكار والمهارات والمستحدثات فتغير وجه التاريخ في كل حالة‏.‏

وبعد
كل تلك التجارب والنتائج عدنا منذ عقود نعاني شيئا من العزلة الفكرية
والعلمية والأدبية‏.‏ أصبحنا نعيش في عالم اليوم وراء أسوار العزلة
المصنوعة من صخور شفافة نري عبرها ما يجري في العالم من حولنا‏,‏ غير أنها
لا تسمح لنا بالتفاعل معها أو الإفادة منها أو حتي التعايش معها‏.‏ أصبحنا
نعاني حالة شبيهة بالتخلف الناتج عن التعليم وهو أشد قسوة من التخلف
الناتج عن الجهل‏.‏ أسوار العزلة الشفافة استطاعت أن تنقل إلينا قشورا من
مدنية الآخرين‏.‏ فنحن اليوم نأكل كما يأكلون ونلبس مثلهم ونعيش في بيوت
مثل بيوتهم ونتباهي بامتلاك ما يصنعون من سلع وما يقدمون من خدمات‏.‏ ولكن
تلك الأسوار لم تسمح بمرور ما يسمح بتطوير قدراتنا ومهاراتنا وتحديث
المؤسسات اللازمة والقادرة علي فعل ما يفعلون تفكيرا وبحثا وتصميما
وانتاجا‏.‏

هذه العزلة الشفافة هي أحد أعراض مرض وهمي اخترعناه وهو
الخصوصية التي تميز مجتمعاتنا‏.‏ هذه الخصوصية هي التي منعتنا أن نأخذ عن
الآخرين تحديث التعليم وتغيير تلك الأنماط البالية من الثقافة الاجتماعية
وقيودها التي أورثتنا البطالة والندرة في العمالة المدربة في آن واحدا‏,‏
وحالت دون تحديث هياكل الاقتصاد وشئون السياسة‏.‏ لم تفعل العولمة فينا
شيئا سوي إثارة الخوف علي تلك الخصوصية المزعومة برغم ما أورثتنا إياه من
تخلف في التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة‏.‏ منعتنا تلك الخصوصية
المزعومة من أن ننطلق الي آفاق رحبة من الحرية والتجارب الغنية نستجيب لها
ونثري بها كل مجال من مجالات الحياة الفقيرة لدينا ونقتحم بها تلك
المشكلات التي استوطنت بلادنا زمنا طويلا‏.‏

في أواخر ثمانينيات
القرن الماضي‏,‏ وبينما كان العالم يستهل عصر التليفزيون الفضائي‏,‏ لم
يشغلنا التفكير فيما يمكن أن توفره تلك التكنولوجيا الجديدة من قدرات ندفع
بها المجتمع خطوات الي الأمام نحو التحديث مثلما فعلت أمم أخري لها أيضا
خصوصيتها الثقافية‏.‏ لم يشغلنا من هذا التطور التكنولوجي الهائل سوي
كيفية الحفاظ علي خصوصية الأمة في مواجهة ذلك الغزو الفضائي القادم‏.‏
وبعد عقدين من الزمن ملأنا الفضاء بأيدينا من حولنا أقمارا وقنوات نهدد
نحن بها تلك الخصوصية المزعومة‏.‏ اضفنا الي حياتنا المزيد من الضجيج
السياسي والتشويش الفكري والترفيه الرخيص والتطرف الديني والدروشة
الاجتماعية‏.‏

سمحت لنا أسوار العزلة الشفافة أن نري دولا أيقظتها
يد الزمن فاستفاقت ونفضت عن نفسها غبار الفقر والجهل والمرض وأصبحت في
غضون عقود قليلة قوة منافسة لقوي الغرب الصناعية مثلما حدث في الصين
وكوريا والهند وماليزيا وسنغافورة وغيرها من الدول التي كانت مثلنا ولم
تعد أبدا كذلك‏,‏ وعبر تلك الأسوار الشفافة نري دولا استبد بها القلق علي
مستقبلها بسبب تراجع مستويات التعليم فانتفضت‏,‏ أما نحن فلم نفعل‏,‏
ودولا أخري أعدت نفسها لاستقبال الصناعات المهاجرة من دول الغرب
الصناعية‏,‏ أما نحن فلم نستعد‏,‏ ضاعت من أيدينا الفرصة تلو الفرصة‏,‏
كان نصيبنا من تلك التجارب أن اكتفينا بالمشاهدة عبر تلك الأسوار الشفافة
برغم الحديث الطويل عن التعليم وعن التدريب والتأهيل لمن أمضوا سنوات
طويلة في مقاعد الدراسة‏.‏

لست داعيا الي التضحية بخصوصية مجتمعنا
ولست ناكرا لها‏,‏ فهي التي تمنح وجودنا معني بين الأمم‏,‏ ولكن الحفاظ
علي تلك الخصوصية لا يعني الغاء مفهوم الزمن ونكران التطور أو التغيير‏,‏
فالخصوصية التي تميز مجتمعنا اليوم لم تكن علي الدوام صناعة وطنية خالصة
بل انها استمدت وجودها من روافد كثيرة بعضها محلي وبعضها وافد من خارج
الحدود علي مر الزمان‏,‏ وسوف تزداد مشكلاتنا كلما تأخرنا عن التفاعل مع
واقع أصبحنا طوعا أو كرها جزءا منه وامتدادا له‏.‏ نحن نعيش واقعا أصبحت
فيه المسافة قصيرة بين اكتشاف الطريق والسير فيه‏.‏

اخترع جوتنبرج
الطباعة في القرن الخامس عشر لكنها لم تصبح حقيقة في حياة الشعوب إلا بعد
ثلاثة قرون‏,‏ أما اليوم فإن أي مستحدث تكنولوجي يصبح متاحا في كل أسواق
العالم بعد انتاجه ببضعة أسابيع‏.‏ نحن نعايش ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ
العالم وهي التزامن الثقافي‏,‏ حيث أصبحت وسائل الاتصال والتجارة تفعل فعل
الأواني الثقافية المستطرقة ولم يعد بمقدور أي مجتمع في أي مكان في العالم
أن يختبئ بعيدا عن التطورات التي يشهدها العالم في كل شيء تقريبا‏,‏ واذا
اختار أي مجتمع أن يفعل ذلك‏,‏ فلن تكون له كلمة في صناعة الواقع الجديد
لهذا العالم‏,‏ بل وواقعه هو نفسه‏,‏ فلم يوجد مجتمع يمكن أن يعيش منفردا
معتمدا علي موارده الذاتية بأي مستوي من المستويات‏.‏ قدر المجتمعات اليوم
أن تتفاعل وتنفتح علي تجارب بعضها البعض‏.‏

مثال واحد أسوقه
للتدليل علي تأثيرات العزلة وراء الأسوار الشفافة‏.‏ في عام‏2006‏ جاء
تلاميذ المرحلة الثانوية لدينا في مسابقة عالمية تحت اشراف المنظمة
الدولية للتعاون الاقتصادي في الرياضيات والعلوم في المرتبة الأربعين بعد
المائة‏.‏ الفكرة وراء تلك المسابقة هي أن التعليم اليوم مورد اقتصادي
يحسب له ألف حساب في النمو الاقتصادي‏.‏ في ذات المسابقة جاءت الولايات
المتحدة في المرتبة الخامسة والعشرين في الرياضيات‏,‏ والمرتبة الحادية
والعشرين في العلوم‏.‏ جاءت فنلندا في المرتبة الأولي‏.‏ كانت نتائج تلك
المسابقة حافزا للكثير من الدول لإعادة النظر في مناهجها‏.‏ انتبهت دول
علي تلك الحقائق المفجعة التي جاءت بها دراسات اقتصادية تربط بين مستوي
التعليم ومستوي النمو الاقتصادي‏.‏

لم تكن المشكلة أن يحصل أبناؤنا
علي تلك المرتبة المتأخرة بين دول العالم ولكن المشكلة هي أن تلك المسابقة
كشفت لنا عن موقع نظامنا التعليمي بين أنظمة الآخرين الذين نعيش معهم
نستورد منهم ونصدر إليهم‏.‏ الطبيعي أن نعود لنبحث ونفكر فيما يمكن أن
يرفع أداء طلابنا في تلك العلوم وأن نعرف كيف نجح الآخرون في رفع مستويات
أداء طلابهم‏,‏ لا شيء من ذلك فعلناه‏.‏ المناهج كما هي والكتب علي حالها
وطرق ومناهج التدريس تزداد ركودا‏.‏ شغلتنا قضية أهم وهي تغيير نظام
الثانوية العامة وكأن نظام الثانوية العامة وحده هو المسئول عن تدني
مستويات التفكير والأداء في العلوم والرياضيات‏,‏ أما الذي فعله الآخرون
فهو متاح ومنشور ومعروف وأرجو أن نتعرض له في مقالة مقبلة‏,‏ ويبقي
السؤال‏:‏ ما الذي يمنعنا أن نفعل ما فعل هؤلاء الآخرون؟