التقدم بالتقادم بقلم‏:‏ نبيــل عـمـــر

من طرف وفاء الأربعاء مارس 11, 2009 11:48 am

التقدم بالتقادم
بقلم‏:‏ نبيــل عـمـــر
‏‏

هل نحن نعيش فعلا في أوائل القرن الحادي والعشرين؟‏!‏

سؤال يبدو ساذجا والإجابة عليه أكثر سذاجة

لكن
لو تعقلنا السؤال وأمعنا تأمله دون عجالة‏,‏ فقد تكون الإجابة أكثر تعقيدا
من تاريخ مكتوب في أوراق نتيجة معلقة علي الحائط‏,‏ أو في صفحة جريدة
يومية أو علي غلاف مجلة اسبوعية‏,‏ أو علي سبورة في فصل دراسي داخل
مدرسة‏,‏ أو دقات ساعة صاخبة مشيدة في برج‏.‏ فالتاريخ ليس مجرد أرقام
تعبر عن أيام وشهور وسنوات‏,‏ وإنما هو حالة حضارية تحدد شروطا يعيش بها
الانسان في عصر ما بكل سماته‏,‏ ألم نسمع عن أهل الكهف؟‏!‏ وكانوا بشرا
عاشوا في زمن بعد زمنهم بأكثر من‏300‏ سنة‏,‏ لكنهم لم يغادروا زمانهم ولو
بيوم واحد‏,‏ فظلوا بعيدين جدا عن التاريخ المكتوب أمام عيونهم‏.‏ اليوم
في حياة الإنسان ليس مجرد‏24‏ ساعة أو‏1440‏ دقيقة أو‏86400‏ ثانية أو زمن
دوران الأرض حول محورها‏,‏ وإنما هو الانتقال من حال الي حال‏,‏ من نقط
علي خط الحضارة الي نقطة أكثر تقدما‏.‏

ولهذا يقولون في الغرب إن الوقت هو الحضارة‏,‏ أي أن أحوالك الحضارية متوقفة علي ما تصنعه بالوقت‏.‏

فهل تمضيه في الثرثرة الفارغة بكل أشكالها أم تحوله إلي قيم مضافة إليك‏,‏ قيم ثقافية وفكرية وعلمية ومادية‏..‏ الخ؟‏!‏
مع
العلم ان الثرثرة الفارغة قد تأخذ اشكالا جادة جدا‏,‏ اقتصادية وسياسية
وعلمية وعملية‏,‏ لكنها اشكال غير قادرة علي انتاج القيمة المضافة‏!‏

بهذه المعايير اتصور ان الاجابة اصبحت صعبة للغاية وليست في مستوي لا الطالب المتوسط ولا المجتمع المتوسط ولا الدولة المتوسطة‏.‏

فالمجتمع
المتوسط يكاد يتمسك بحبال الزمن ويشدها حول رقبته كما لو أنه يشنق نفسه
عمدا أو سهوا‏,‏ متصورا ان التقدم يمكن ان يحدث بالتقادم‏..‏ وهذا النوع
من المجتمعات يكثر فيه الحديث عن الخبرات أكثر من الإبداع‏,‏ عن السن أكثر
من المعرفة‏,‏ عن المنصب أكثر من الموهبة‏,‏ عن الدهن في العتاقي أكثر من
الحيوية‏,‏ عن الاستبداد اكثر من الحرية‏,‏ عن الاستقرار أكثر من
التغيير‏,‏ عن الماضي أكثر من المستقبل‏!‏

وبالقطع نحن من
المجتمعات التي تؤمن بالتقادم وجعلناه رمزا لحياتنا الحديثة‏,‏ مع ان
التاريخ الانساني له قانون واضح وصارم منذ بدء الخليقة وإلي الآن‏,‏
لاتقدم بالتقادم‏,‏ إلي درجة أن الأديان السماوية كلها عبارة عن حركة إلي
الامام للانتقال من حالة حضارية إلي حالة أكثر تقدما‏,‏ ومعها كل الافكار
العظيمة التي آمنت بها البشرية‏,‏ وابتكرها بشر رفعهم الآخرون إلي مرتبة
التقديس‏.‏

وذات مرة جمعتنا المصادفة في سهرة خاصة مع عدد من المسئولين الكبار فسمعت واحدا منهم يسأل الآخر‏:‏ من اخترتم لشركة‏..‏ ؟
فرد عليه بسؤال‏:‏ هو مين ينفع؟
ووجدت
نفسي اكسر قواعد البروتوكول وأتدخل في الحوار مضطرا ومعتذرا‏,‏ وقلت‏:‏
لا‏..‏ مصر مليئة بالكفاءات والمواهب‏,‏ لكن الالتزام بقواعد لم يعد لها
وجود في العصر الحديث هي سبب الازمة الحالية؟

سألني‏:‏ اي قواعد؟‏!‏
قلت‏:‏ قاعدتا الولاء قبل الامكانات‏,‏ والتقدم بالتقادم‏!‏

تجاهل المسئول عبارة الولاء الشخصي وسألني‏,‏ وماذا تقصد بالتقدم بالتقادم؟‏!‏
اجبت‏:‏
قانون الزمن والطابور والسلم الوظيفي المتصاعد‏..‏ إخضاع الكفاءات لقانون
الترقية بالرسوب الوظيفي‏,‏ قد يصلح هذا الاسلوب في الجهاز الاداري للدولة
الواقع في فك البيروقراطية منذ توحيد القطرين في عصر مينا‏,‏ وقد تكون له
صلاحية نسبية في مناصب الإدارة الوسطي كحد اقصي‏,‏ لكن الإدارة العليا يجب
ان يحكمها قانون الموهبة والمعرفة والإمكانات الخاصة والقدرات المتميزة‏,‏
التميز أكثر مقدرة من الخبرة ألف مرة في ابتكار حلول للمشكلات‏,‏ وأصحاب
القدرات المتميزة يمكنهم ان يتجاوزوا بسهولة اصحاب القدرات التقليدية مهما
كان الفارق في السن‏,‏ وقد سدت قاعدة التقدم بالتقادم الابواب في وجه مئات
الآلاف من المصريين المتميزين‏,‏ لان مصر كلها وقفت في الطابور تنتظر حتي
تعب الواقفون فيه وتهالكوا وانهكوا وفقدوا الأمل والرغبة‏!‏

قال‏:‏ يعني فيه اشخاص أكفاء أم لا؟‏!‏
قلت‏:‏ بالطبع موجودون لكن دون ولاء ودون تقادم‏.‏

وقبل
ان ينتهي الحوار سألته ان يشاهد فيلما امريكيا بديعا من واقع الحياة اسمه
جود ويل هانتنج‏.‏ ولأ اعرف هل شاهد الفيلم الجميل أم لا‏,‏ والفيلم يروي
حكاية ويل هانتنج شاب فقير عبقري لم يكمل تعليمه الجامعي لكنه عشق المعرفة
والقراءة وعلم الرياضيات‏,‏ وكانت حياته جرعات من البؤس والمعاناة والألم
فترعرع عدوانيا متمردا فيه بعض الانحراف‏,‏ واشتغل عامل نظافة في احدي
الكليات العملية‏,‏ وكان بالكلية استاذ رياضيات نصف مشهور سأل طلابه ان
يحلوا معضلة معقدة كتبها لهم اختبارا نهائيا علي السبورة‏.‏ ولم يستطع اي
من طلابه ان يحلها‏..‏ إلا عامل النظافة الذي تسلل خلسة إلي السبورة وكتب
عليها الحل السحري واختفي‏.‏

وذهب الدكتور
إلي عامل النظافة‏,‏ فوجده مطلوبا علي ذمة قضية اعتداء بالضرب فيها حكم
بالحبس ستة أشهر‏,‏ فقدم طلبا إلي القاضي ليرعاه‏,‏ فسأله القاضي‏:‏ لماذا
تريد ان تفعل ذلك وانت لاتعرفه؟‏!‏
اجاب الاستاذ‏:‏انه عقل
عبقري ومن الخسارة لأمريكا ان يضيع في زحمة الحياة دون ان تستفيد منه‏,‏
مثل هؤلاء ياسيدي القاضي هم الذين فتحوا لأمريكا ابواب قوتها وتقدمها
ونظامها‏,‏ وهم حلمها الدائم إلي المستقبل الأفضل‏!‏

فاستجاب القاضي له‏..‏
واسترد ويل هانتنج نفسه خالية من العقد وشق طريقه عالما فذا في الرياضيات‏.‏

هذه هي فلسفة التقدم‏,‏ والتقدم بشر‏,‏ ولايحدث بالتقادم‏!‏

يا تري كيف اختار المسئول الكبير رئيسا لتلك الشركة؟

nomar@ahram.org.eg