شق النهار‏(14)‏ جـذور مقطوعـة بقم : أسامة أنور عكاشة

من طرف سمير الخميس مارس 12, 2009 11:29 am

شق النهار‏(14)‏
جـذور مقطوعـة
بقم : أسامة أنور عكاشة

في
حجرة فخمة ملحقة بمكتب الرجل الكبير‏,‏ جلست تتأمل ما حولها ومن حولها‏,‏
في انتظار ان يؤذن لها بالدخول‏..‏ قبلها لم تفكر طويلا‏,‏ كل ما خطر لها
ان عليها ان تفعل شيئا‏,‏ كان شوقي بالنسبة لها لغزا لم تستطع ان تحله
بعد‏,‏ ولكن جاذبيته من نوع ما ربطت مشاعرها به‏,‏ رفضت ان تعترف بأن ما
تحسه تجاهه هو الحب نفسه كذلك الذي مر بها في زمن فائت وقادها الي أسوأ
تجربة يمكن أن تمر بها فتاة في صدر شبابها‏,‏ وربما بقيت بعدها وحتي ظهور
الرجال الآخرين علي فترات في حياتها تضع تلك التجربة التعسة حاجزا تصنعها
أمواج الهجوم العاطفي‏,‏ لكن اقتحام شوقي لحياتها كان مختلفا إذ تسلل ظلا
في خلفية المشهد الأساسي‏,‏ كان في بداية سنوات جيرتهما الأولي مجرد ظل
يعبر مرحلة طفولتها فلا يحرك داخلها أية مشاعر من أي نوع أيا كان وجوده
محايدا‏,‏ وحين رأته مرة أخري بعد سنوات طويلة كان ظلا له ملامح تجعله
موجودا خارج الخلفية‏,‏ ويمتلئ بكل التفاصيل التي تجعله شخصا حقيقيا
انعكست أولي نقاط إضاءته علي وجه الشيخ عادل‏..‏ وعادل لم يكن بعيدا كان
يتمتع بذلك النوع من الحضور الذاتي لا يقاربك مباشرة ولكنه يقتحمك بدون أن
يبدو فظا أو متطفلا‏,‏ هي لاتذكر متي ظهر في سر
اية الباشا‏,‏ ولعل ذلك
قد حدث في فترة تجربتها المريرة أو قبلها أو بعدها‏..‏ فقط وطد وجوده
وأصبح بعد فترة قصيرة واحدا من أهل البيت كأنه خالطهم منذ سنوات طويلة بلغ
من طولها ان نسي الجميع متي بدأت‏,‏ كانت عاهته تعطيه تلك الحصانة التي
تمنع عنه أي شكوك أو شبهات تقصي الآخرين عنه وأصبح وجوده اليومي في
السراية أمرا طبيعيا‏,‏ أما غيابه فكان يثير القلق ويجعل الجميع يبحثون
عنه‏,‏ وكانت إجادته للغناء مع رخامة صوته وتلك العرب التي ترتجف في صوته
بترددات شجية تدفع الدموع في المآقي كوجبة يومية تدمنها الأم وابنتها
وحفيدها الصغير‏,‏ وبإحساس الأنثي الفطري لاحظت نهير ان اقتراب عادل منها
ليس لأسباب الصداقة أو شبه الأخوة الذي كان يجمعهم بها حتي فاجأها ليلة
حين طالبوه بالغناء أن همس بصوت أحست أنه يقصدها سأغني الليلة لنهير
وحدها‏,‏ الغنوة لم تكن من أدوار أو طقاطيق سيد درويش أو كامل الخلعي أو
محمد عثمان أو غيرهم من الذين كان يفضل ان يغني لهم‏,‏ كانت الأغنية علي
رتم غربي تقول كلماتها علي لحن التانجو‏:‏ أطلب عيني‏,‏ قلبي وعيني
فداك‏,‏ غاليين علي وأغلي منهم رضاك
‏
..‏ الجمال الذي حوته أنغام
التانجو وحملته كلمات الأغنية كانتا تخرجان محملتان بهدهدة الباكي الذي
اعتصر أحزانه كلها في نبرات صوته حتي لقد خيل اليها انه يبكي فعلا‏,‏
وراحت تراقب ما بين نظارته السوداء ومسارب الدمع تحتها‏,‏ واكتشفت انه
لايبكي وان مشاعره تعبر عن أحزانه في صوته كلما غني وأدركت لأول مرة ان
هذه الأحزان موجودة حتي في أكثر أغانيه مرحا وسعادة‏.‏

تأثرت بشدة
ولكنها فطنت في نفس الوقت ان تأثرها لم يتطور الي مشاعر الحب وأدركت أيضا
انها تحمل للشيخ عادل شفقة من نوع خاص‏,‏ قد يكون في حالة ما أقوي من
الحب‏,‏ اجتذبت ذكريات الشيخ عادل صاحبه الاخر الذي يناقضه في كل شيء‏,‏
وقد كان شوقي أستاذا جامعيا مثقفا يجيد الحديث والتحاور مع الاخرين
بمهارة‏,‏ كانت هي أكثر ما لفت نظرها اليه وحين راح يذكرها بأحداث في
الطفولة لم تكن قبلا تذكرها‏,‏ فوجئت بأنه استطاع ان يفرج عن كل ذكرياتها
وجعلها تطرح أمامه كل ما حدث لها وكأنما اكتشفت فيه صديقا حميما كان
مغتربا ثم عاد‏,‏ وكانت عودته قدرا انتظرته طوال عمرها‏,‏ أفاقت علي صوت
مدير المكتب يطلب منها التوجه لمقابلة الرجل الكبير‏,‏ وكان الرجل كبيرا
بالنسبة لأسرتها فقط إذ كانوا يصنعون منه طوطما ينتمون اليه رأته في
مناسبات قليلة من بينها حفل زواجها‏,‏ وكان كل من يواجه مشكلة في أسرتها
لايجد معينا غير رجائي بك هي لاتعرف علي وجه التحديد طبيعة خطورته أو
مركزه المميز الذي يجعله ملاذا للجميع‏,‏ تعرف فقط انه يعد رأس عائلة
الباشا‏,‏ وان لديه مفاتيح كل أسرار وأخبار الجميع‏.‏

جلس في ضوء
الشمس المتدفق من خلال النافذة العريضة يبتسم وهو يرحب بها‏:‏ أهلا
بالغزال الشارد الذي أتعب قلوب شباب مصر بالجري خلفه‏,‏ لم تستمر
المجاملات طويلا فقد طالبها بالدخول في الموضوع‏,‏ وحكت له عن جارهم
الاستاذ الجامعي الذي توجه الي الكلية التي يعمل بها ذات صباح وفوجئ
بالقبض عليه وبعد مرور ثلاثة أسابيع لم يستطع احد من أهله ولا من أصدقائه
ان يتصل به أو يعرف مصيره‏,‏ نظر اليها طويلا وسألها وقد تحولت ملامح وجهه
الي قناع لايبدي ما خلفه‏,‏ اسمه؟ أجابته‏:‏ د‏.‏شوقي رياض‏,‏ تقولين انه
اختفي في حلوان؟ حسنا سأحاول ان اعرف اخباره‏,‏ شكرته ونهضت لتغادر لم تصل
حتي الي الباب وأوقفها نداؤه‏.‏

ـ ما علاقتك الحقيقية به؟

أذهلها ان السؤال لم يفاجئها بل بدا منطقيا ولابد لرجل كرجائي بك ان يسأله‏.‏

في
السيارة التي كانت تقطع الطريق الي حلوان ظل السؤال يدق في رأسها
متراقصا‏,‏ ما علاقتك الحقيقية به؟ وراحت في ذهنها ترد عليه بسؤال اخر‏:‏
لماذا قال علاقتك الحقيقية ولم يقل علاقتك فقط‏,‏ مثل هذا السؤال لايقال
الا في حالة اعترافها بعلاقة مزيفة والرجل يريد منها ان تعترف بالعلاقة
الحقيقية‏,‏ هل بدا في نبرات حديثها وهي تحكي له عن شوقي خفقة من نوع ما
جعلت الثعلب العجوز يشك في شيء؟ ولكن فيم يشك؟ في علاقة حب مثلا‏.‏

لن يحدث‏...‏ لن يجبرها مخلوق علي الاعتراف‏.‏

عادت لتجد الشيخ عادل‏,‏ لم تسمع صوته قبل ان تراه ككل مرة بل كان صامتا وحزينا‏,‏ ولن يحتاج الأمر جهدا لتجعله يتكلم‏.‏

ـ
عرفت منذ قليل ان شوقي قد نقل الي معتقل بعيد في الصحراء الغربية ومن
المستحيل ان توجد وسيلة للاتصال به‏,‏ الأمر الذي يذهلني ويحزنني بالفعل
ان يحاط شوقي بكل هذه الإجراءات التي لا تنبيء الا بمصيبة سوداء‏,‏ ماذا
فعل؟ في الحق لا أعرف‏.‏

فوجئت بنفسها وبدون أي مبرر إلا خاطر مر
بعقلها كلمحة شهاب اشتعل وانطفأ في أقل من ثانية كانت تصيح به بل قل انك
تعرف وسر اختفاء شوقي وكل ما يحدث له هو سرك المكنون في صدرك‏!‏