سحر خليفة في ملحمة أصل وفصل‏(1‏ ـ‏2)‏ بقلم : د‏.‏ صلاح فضل

من طرف سمير الإثنين مارس 16, 2009 12:28 pm

سحر خليفة في ملحمة أصل وفصل‏(1‏ ـ‏2)‏
بقلم : د‏.‏ صلاح فضل

علي
عكس كبار المبدعين في تدرج أعمالهم من الضخامة إلي الوجازة‏,‏ شرعت
الروائية الفلسطينية الأولي سحر خليفة في نشر الجزء الأول‏,‏ مما يبدو أنه
سيكون ملحمة النكبة الكبري بعنوان أصل وفصل ـ دار الآداب‏2009‏ م ـ حيث
تقدم رؤية بانورامية لجذور الشجرة الفلسطينية وامتداداتها وهي تتعرض للدفن
والاقتلاع والتزاحم اليهودي الشرس علي فضائها الحيوي واختراقه وإزاحته
خلال فترة الانتداب البريطاني‏.‏ اختارت أن تضئ تلك الحقبة الأحرج في
تشكيل وجه الصراع وتحديد مساره في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن
الماضي‏,‏ لتسد هذه الفجوة في الوجدان العربي‏,‏ لمعرفة بواطن المشهد
التاريخي للمأساة‏,‏ إذ مهما كتب المؤرخون ونشروا من وثائق يظل عمل
المبدعين الجوهري هو إعادة تخليق الخلايا الحية للواقع واختبار فعاليتها
في تمثيل لب الحقيقة‏.‏

وليس هناك مثل الأعمال الروائية الكبري في
الكشف عن ملامح الروح وتشكيل رؤية الذات والآخرين‏.‏ وقد جذرت سحر خليفة
بؤرة رصدها في أسرة فلسطينية عريقة تنحدر من الجد الأكبر الشيخ قحطان الذي
استلم الخراج من زمن الأتراك وصار من الخاصة والأعيان‏..‏ كان يعتصر
الفلاحين ويذيق البدو الأهوال فصار وجيها وبني قصرا في مدينة نابلس أم
السنجق‏,‏ مدينة بقضاء وفلاحين وزيت زيتون وجبنة وغنم وصابون شهير‏..‏
صارت شوارعها مرصوفة وجاءها جنود بتنانير من اسكتلندا وإيرلندا إضافة إلي
الهند واستراليا‏,‏ وكذلك صارت بحاخامات جاءوا من روسيا وبولندا ثم
أمريكان‏,‏ لكن الأمريكان تأخروا جدا لأن الإنجليز ظلوا في البلد حتي داخت
وصارت بيهود بعد الجراد والمجاعة والشيخ قحطان وقد اقتضي رسم اللوحة
الكاملة من الكاتبة أن تضع الخطوط العريضة للطبقات الاجتماعية والهجرات
إلي جانب أشكال الحياة اليومية وسماتها المائزة‏.‏

وميض الكارثة
تنبثق
شهوة السرد من الأسطورة بأشد مما تنحدر من أصلاب التاريخ‏,‏ وكما نعهد في
مطلع الأعمال الملحمية الكبري لابد من نبوءة مذهلة تخطف الأبصار وتضرب
القلوب‏,‏ وليس مثل الجدة الحكاءة من تفتح صفحة الغيب‏,‏ حيث الدنيا ليل
والقمر الكامل كالفضة‏.‏ أمي تجلس خلف الجدة تقرأ آيات القرآن‏,‏ ستي تمسك
صفحة مرآة تكشف فيها‏(‏ لاحظ أن الكلام موزون‏)‏ أحيانا تمر بضع ساعات ولا
تكشف‏,‏ وأحيانا بضع دقائق‏,‏ فتح‏..‏ يعني القمر يفتح أي يتنبأ وستي تقول
ما يكشفه داخل مرآة‏..‏ يعني الأشياء والعوالم داخل مرآة تتحرك مثل
السينما‏,‏ مثل الأفلام‏,‏ يعني أفلام أنور وجدي وعبد الوهاب وليلي مراد
في شاشات تحكي بوضوح‏,‏ لكن القمر لا يتكلم‏,‏ فقط الصور مثل السينما
الصامتة‏,‏ صور ورموز ومعان لا نفهمها إلا حرزا‏,‏ نحزر ما معني ذاك الرمز
وتلك الصورة‏.‏ يعني العلم حين تهاوي فوق الرؤوس في برك الدم كان
النكبة‏,‏ فبكت ستي وقالت‏:‏ راحت‏,‏ ضاعت البلاد وبدأت تبكي‏,‏ فحدقت
الأم وقالت بخوف‏:‏ لا مش معقول‏,‏ فقالت ستي وهي ترمي بتلك المرآة‏:‏
أقول لك راحت‏,‏ والناس يا حرام مثل النمل والدم للركب‏,‏ آه يا ويلي ورمت
المرآة‏,‏ كان ذلك قبل النكبة ببضعة أشهر‏,‏

وكنا مازلنا نتفاءل‏,‏
وكان العرب مثل النمل وجيوش زاحفة من سيناء ومن العراق ومن الأردن‏,‏ وكنا
نظن القوة هي بالكثرة‏..‏ لكن القمر قال قوله وانكفأ العلم فوق رؤوس تغرق
بالدم‏.‏ ومع أن الكاتبة بعد ذلك تحاول عقلنة الحدث وشرح طبيعة النبوءة
واعتبارها مثل الحلم وتفسيراته المختلفة‏,‏ خاصة إذا رأته من تملك بصيرة
ثاقبة مثل جدتها بالرغم من أنها كانت أمية علي السكين علي حد تعبيرها‏,‏
بيد أنها استطاعت أن تفهم لغة القمر وتستبطن الغيب المخبوء في أزمنة فوق
معرفة الإنسان‏.‏ يبدو الحديث علي لسان راوية أقرب إلي عمر الكاتبة
المولودة مطلع الأربعينيات‏,‏ لكن المشكلة تكمن في طموح الرواية لسعة
الرؤية وتجاوز المنظور الفردي‏,‏ مما يضطرها إلي الانزلاق إلي الراوي
المحيط بكل شئ علما‏.‏ويظل هذا الراوي ممسكا بخيوط اللعبة بالرغم من بروز
الراوية برأسها الصغير من حين لآخر‏.‏

غصة الآخر
جربت
المجتمعات العربية مرارة الوجود اليهودي فيها‏,‏ وعرفت حاراتهم الضيقة
ورجالهم البخلاء‏,‏ لكنهم كانوا أقلية منكودة تحتمي بالثروة وتخضع قسرا
للطابع الشرقي‏.‏ أما التجربة الفلسطينية فهي مختلفة‏,‏ إذ اقتحم اليهود
حياتها بدهاء السياسة ومكر الأمم من كل أقطار الأرض‏.‏ تطلعنا سحر خليفة
علي ظلال هذا التعايش المرير المتوتر من خلال علاقة عائلة قحطان بأسرة
اسحق شالوم‏,‏ شريك الخال في شركته وتجارته‏.‏ حيث كان الاختلاط باليهود
مقصورا علي الرجال أثناء العمل أو في الحانات والكباريهات‏.‏ أما الحياة
الأسرية داخل البيوت وفي المتنزهات فانفصال تام‏,‏ إذ بالإضافة إلي التوتر
القومي بين الطرفين كان هناك الفارق في العادات والانفتاح والخليقة‏,‏
لهذا عندما اقترح الخال الثري علي أخته أم وحيد خلال النزهة التي قاموا
بها بعد خطبة ابنتها وداد لابنه رشاد‏,‏ عندما اقترح أن يدعو شريكه شالوم
وبناته للانضمام إليهم ردت عليه‏:‏ ـ نقعد مع يهود؟ شو يقولوا الناس؟
بناتـهم لابســات ومش لابسات كأنهن عريانات‏;‏ ـ يا أختي يا أم وحيد‏,‏ كل
واحد يلبس علي كيفه‏,‏ مالنا ومالهم‏,‏ كل واحد حر بحياته‏,‏ كلها ساعتين
أو ثلاثة وكل واحد يرجع لبيته‏.‏

الزلمة مليح وينفعني‏,‏ الشغل مع
شالوم عن عشرة‏,‏ بيني وبينه بيزنس‏,‏ خليني أتباهي وأتفاخر‏,‏ خليه يشوف
من الأحسن‏:‏ أكل الخواجات ولا أكلنا‏,‏ قولي طيب يرضي الله عليك‏.‏ قالت
طيب وقلبها يضرب ورأسها يتمايل من الصدمة ولا تلبث هذه الصدمة أن تتفاقم
عندما تتضح مخاطر هذا الاختلاط‏,‏ فخطيب البنت الذي أكره علي زواج غير
مرغوب فيه لا يلبث أن ينجرف في تيار الإعجاب بالفتيات اليهوديات
الغاويات‏,‏ وتظل الهوة شاسعة بين المرأة الفلسطينية المحافظة‏,‏
واليهودية المتحررة‏,‏ لا يجسرها سوي نموذج ثالث توظفه سحر خليفة بمهارة
فائقة‏,‏ وتمثله الأستاذة ليزا المعلمة المسيحية الأنيقة‏,‏ المتابعة
لحركة تحرير المرأة ومشاركتها في الشأن الوطني‏,‏ حيث تشترك ليزا في قيادة
أول مظاهرة نسائية تخرج إلي بيت الحاكم البريطاني للاحتجاج علي سياسة
حكومة الانتداب وتصرفات الجنود الإنجليز‏,‏ عندئذ تبدو علي سطح الرواية
آثار الغليان السياسي وبوادر الثورة وريح النكبة السموم‏.‏