الهويــة الثقافيــة‏(1)‏ بقلم : جابر عصفور

من طرف سمير الإثنين مارس 16, 2009 12:29 pm

الهويــة الثقافيــة‏(1)‏
بقلم : جابر عصفور

كنا
في المؤتمر السنوي لمجلة‏(‏ العربي‏)‏ التي يرأس تحريرها المثقف الكبير
سليمان العسكري‏,‏ وكان موضوع المؤتمر عن تحديات الإبداع العربي الذي كانت
تمثله أجيال متعددة‏,‏ أهمها الأجيال الشابة التي وإن كنا لم نسمع صوتها
بما يكفي أضافت للمؤتمر مذاقا خاصا‏,‏ ومنحته حيوية تؤكد تواصل إنجازات
الإبداع العربي‏,‏ وقدرته علي مواجهة تحدياته المتغيرة‏,‏ وعوائقه
المتكاثرة وكان من الطبيعي أن يقود الحوار إلي موضوع الهوية الثقافية وأن
يشتد النقاش حولها‏,‏ وأن ينقسم المناقشون إلي أكثر من فريق‏,‏ أهمهم
اثنان المطالبون بحماية الهوية الثقافية والحفاظ عليها من المخاطر التي
تهددها‏,‏ كي تبقي صافية نقية‏,‏ بعيدة عن العواصف التي أخذت تناوشها‏,‏
وتقتحم وجودها الصافي‏,‏ مرة باسم الاستعمار‏,‏ وثانية باسم العولمة‏,‏
وثالثة باسم الإنجلوفونية والفرانكوفونية التي جعلت أصدقاءنا المغاربة
يتحدثون عن المخاطر التي تواجه الهوية العربية‏,‏ وضرورة حمايتها من غزو
الفرانكوفونية وما يوازيها من نزعات محلية أمازيغية أو بربرية وكان يقابل
هؤلاء المنادون بالدفاع عن الهوية الثقافية العربية حقا‏,‏

لكن دون
أن يدفعنا الخوف عليها إلي الانغلاق أو تصويرها علي أنها نسق مغلق‏,‏ غير
قابل للانفتاح أو التغير وكنت من الفريق الثاني الذي يتصور أن الهوية
الثقافية لأي شعب هي هوية متغيرة بالضرورة‏,‏ لا تعرف الثبات ما ظل
تاريخها يمر بمراحل من التحول والتغير اللذين ينتجان عن عوامل محلية
وعالمية في آن وكان رأيي الذي دافعت عنه أن الهوية ليست كيانا ثابتا‏,‏
منغلقا علي نفسه‏,‏ وإنما هي كيان فعال‏,‏ أي فاعل ومنفعل معا‏,‏ وكنت
أعني بذلك ما انتهيت إليه‏,‏ بعد تأمل وممارسة‏,‏ أن هوية الشيء هي ما
يميزه عن غيره‏,‏ ويجعله مختلفا عما عداه‏,‏ فالهوية هي الخصائص النوعية
التي تحدد ثقافة عن غيرها‏,‏ وتجعلها تتمايز وتختلف بالقياس إلي بقية
الثقافات ويكمل ذلك ما أراه من أن الهوية الثقافية تتكون من عناصر
ثابتة‏,‏ عميقة الجذور‏,‏ ضاربة في العمق التاريخي للأمة التي تنتسب إليها
الثقافة‏,‏ وعناصر متغيرة مشروطة بالتاريخ المتحول لهذه الأمة بكل لوازمه
وعملياته متباينة الخواص‏,‏ أقصد إلي تلك العمليات التي تأتي من الخارج‏,‏
متفاعلة مع العناصر الثابتة التي تتأثر بها وتؤثر فيها علي السواء وعندما
أحدد هوية الثقافة المصرية‏,‏

من هذا المنظور‏,‏ فإنني أحدد
ثوابتها بعناصر ثلاثة هي العنصر الفرعوني الذي لا يزال ممتدا بمعني أو
غيره‏,‏ والعنصر المسيحي الذي لا يزال مـيراثه المـادي والمعـنوي متـجسدا
في الـطرف الـثاني من الأمـة الـتي لا يزال يجمعها شعار ثورة‏1919‏ الدين
لله والوطن للجميع أما العنصر الثالث والأخير فهو العنصر العربي الإسلامي
الذي يجمع ما بين دين وهوية قومية‏,‏ علي نحو ينبغي التمييز بينهما‏,‏ رغم
كل ما يربطهما‏,‏ حتي لا يختلط الديني بالقومي أو العكس‏,‏ ففي هذا
الاختلاط أو الخلط ما يؤدي إلي مشاكل جمة‏.‏

هذا عن عناصر الثبات
في الهوية الثقافية المصرية‏,‏ أما عناصر التغير فإنها تجمع بين المؤثرات
الثقافية الوافدة علي هذه الثوابت‏,‏ وهي‏,‏ في عصرنا الحديث‏,‏ العالم
الغربي الذي اتصلنا به‏,‏ وفرض وجوده علينا‏,‏ منذ بدء الحملات
الاستعمارية التي استهلتها حملة نابليون بونابرت سنة‏1798,‏ والتي جاء‏-‏
بعد رحيلها سنة‏1801-‏ الاحتلال البريطاني الذي امتد من‏1882‏ إلي‏1954,‏
وهي الفترة التي يمكن أن نطلق عليها فترة الاستعمار الاستيطاني‏,‏ أو
الكولونيالي‏,‏ قبل أن تتغير المرحلة التاريخية ويأتي استعمار جديد بمرحلة
جديدة‏,‏ هي المرحلة الإمبريالية وقد اتصلنا بكلا النوعين من الاستعمار
الذي ظلت علاقته بنا تنطوي علي مفارقة دالة‏,‏ فهو استعمار عسكري
واستيطاني واقتصادي من ناحية‏,‏ وهو حضور ثقافي اقترن بجوانب إيجابية
أفادت ثقافتنا‏(‏ سواء في مجالات التعليم والإبداع والإعلام‏)‏ من ناحية
مقابلة ورغم أنه فرض علينا الاتباع والتقليد في هذه المجالات في جانب‏,‏

فإننا
أخذنا منه‏,‏ في بعض دوائره الثقافية‏,‏ ما علمنا نقض الاتباع ورفض
الهيمنة الثقافية‏,‏ خصوصا عندما تعرفت طليعتنا الثقافية علي ما يطلق عليه
خطاب ما بعد الكولونيالية‏,‏ أو خطاب نقض الاستعمار‏,‏ وهو الخطالب الذي
عرفنا منه أن الغرب الثقافي ليس دائرة واحدة‏,‏ أو كيانا مصمتا‏,‏ وإنما
هو دوائر عديدة مختلفة‏,‏ وكيانات كثيرة متصارعة فيها ما تعلمنا منه نقض
المركزية الأوروبية ونقض خطاب الاستعمار بكل تجلياته ومراحله وأقنعته‏,‏
متعددة الأسماء والصفات والملامح‏.‏

وما يحدد الوضع الحالي لهويتنا
الثقافية المصرية هو تفاعل عناصرها الثابتة الأصلية مع العناصر المتغيرة
الوافدة‏,‏ فهذا الوضع بما هو عليه من خصائص هو ما يمايز بين الهوية
الثقافية المصرية والهوية الثقافية السورية أو العراقية أو المغربية أو
السعودية إلخ وفي الوقت نفسه‏,‏ هو ما يمايز بين الهوية الثقافية المصرية
وغيرها من الهويات الثقافية في أقطار العالم المنبسطة علي امتداد الكرة
الأرضية صحيح أن الروابط بين الأقطار العربية أكثر قوة من حيث ما يجمع
بيننا من تاريخ مشترك ولغة مشتركة ومصالح مشتركة وهموم مشتركة‏.‏