ومـا لا إســم له بقلم : إبراهيم أصلان

من طرف ميمو الثلاثاء مارس 17, 2009 4:13 pm

ومـا لا إســم له
بقلم : إبراهيم أصلان

في
مناسبة حديثنا السابق عن الكاتب الأمريكي ارنست همنجواي‏1899‏ ـ‏1961‏لم
يكن ممكنا إلا ان نشير مجددا إلي الحقيقة التي شاعت حول تأثير أعماله علي
العديد من كتاب القصة المصريين والعرب‏,‏ وهي مسألة رددها بعضنا من دون ان
ينتبه إلي ان التأثير هذا لم تتركه اعمال الرجل في حد ذاتها‏,‏ وانما
تركته المباديء الفنية التي التزم بها في تقديم هذه الأعمال‏,‏ وهي مباديء
لم يأخذ بها وحده وانما كانت سمة تعبير بارزة في أعمال كتاب كبار وشعراء
من امثال جويس وإليوت ورسامين كثر‏,‏ ولعله من المناسب ان نستعيد بعضها
بتذكر واحد من افضل الكتب التي وضعت ليس عن همنجواي فقط ولكن عن اي قاص أو
روائي آخر‏,‏ اعني كتاب همنجواي ـ دراسة في فنه القصصي الذي وضعه كارلوس
بيكر وترجمه وراجعه الاستاذ احسان عباس ومحمد يوسف نجم علي التوالي‏,‏
ونشرته مكتبة الحياة في بيروت‏436‏ صفحة من القطع الكبير‏,‏ عام‏1959‏ وهو
الكتاب الذي يرصد حكاية ما انجزه همنجواي عبر خمسة وثلاثين عاما منذ
اغترابه في القارة الأوروبية وحتي عمله الأخاذ العجوز والبحر وقوة تأثيره
التراجيدي الذي لاينسي‏.‏

سوف نكتفي هنا بايجاز احد هذه المباديء
والتي تبناها الكثيرون بسبب ولعهم بالمشهد‏,‏ بما هو مرئي الشغوفون بامساك
اللحظة عندما تكون راهنة‏.‏

لقد كانت غاية همنجواي ان يعرض امام القاريء ما سماه كيف كان ذلك؟ وهو المبدأ الذي يتضمن ثلاث ادوات جمالية‏:‏

المكان والحقيقة والمشهد‏.‏
والمقصود
انك ما دمت لاتمتلك جغرافية الشيء اي الحدود التي يدور فيها عملك فليس
لديك شيء‏,‏ وقل ان تجد ادباء يتمتعون بهذا الاحساس بالمكان ويحتفظون
باللوحة من دون ان يزحموها بعناصر قصصية اخري مثلما نجد عند همنجواي الذي
اعتاد ان يقدم لنا مشهدا ناضرا كأنه مرسوم بالحبر الصيني علي ورق نظيف
ابيض‏,‏ متجنبا النعوت والزخرف التي تثقل من حركة الفقرة‏,‏ بل يجعلها
تتحرك حرة وجريئة وهي مشحونة بالحقائق التي التقطتها العين اليقظة
المدربة‏,‏ راسما صورة شاملة تسمح لكل قاريء ان يري فيها موضع التفرد‏,‏
ويتيح له‏,‏ حسب خياله‏,‏ ان يعمل مع النص الذي يقرأ‏,‏ يترافق مع هذا
الاحساس بالمكان احساس اخر بالحقائق التي تتقاطر مسموعة كانت أو مرئية أو
ملموسة‏,‏ وهي حقائق تقرر دون محسنات لفظية‏,‏ فاذا تدفق فيها تيار الخيال
نبضت الصورة كلها ودبت فيها الحركة‏:‏ انظر‏:‏

ربطوا البغال إلي
الثور الميت‏,‏ وفرقعت السياط‏,‏ وجري الناس‏.‏ واندفعت البغال وهي تشد
وتدفع بأرجلها‏,‏ اما الثور فإنه تحرك بحفيف خافت علي الرمل‏,‏ وأحد قرنيه
ينطح الهواء‏,‏ ورأسه قد تدلي إلي جانبه حتي خرج من البوابة الحمراء‏.‏

هنا
لا نفتقد المكان والحقائق من‏:‏ ثورة ميت‏,‏ ورجال‏,‏ ورمل‏,‏ وبوابة
حمراء‏,‏ ولكن جملا مثل فرقعة السياط‏,‏ وشد البغال‏,‏ ودفعها بأرجلها‏,‏
واندفاعها‏,‏ اي الجمل التي ربطت بين الحقائق في المكان هي التي جعلت
المشهد ينبض بالحياة‏.‏

ويقول‏:‏ إن الحقيقي مصنوع من المعرفة
والتجربة والخبز والزيت والملح والخل والسرير والصباح الباكر والليالي
والأيام والبحر والناس والنساء والكلاب والعربات المحبوبة والدراجات
والنجاد والوديان وظهور القاطرات واختفائها في المنعطفات‏,‏ من ذكر القطا
وهو يصفق بجناحيه ورائحة العشب والجلد الذي دخن حديثا وصقلية‏.‏

فإذا منح الفنان معرفة هذه الأمور وممارستها وعرف امثالها مما ليس له اسم‏,‏ فان العالم كله يصبح وطنه المألوف‏.‏