شجرة الأهرام الباسقة بقلم‏:‏ محمد سلماوي

من طرف roidaa الأربعاء مارس 18, 2009 10:54 am

شجرة الأهرام الباسقة
بقلم‏:‏ محمد سلماوي

في
اللغة الإنجليزية مثل يقول إن المرء قد لا يري الغابة بسبب كثافة الشجر‏,‏
أي أن التفاصيل اليومية قد تخفي عن الإنسان الرؤية الشاملة للمشهد‏,‏ وقد
ألح علي هذا المعني طوال الأسبوع الماضي كلما سألني أحد في انزعاج‏:‏ ما
هذا الذي يحدث في الأهرام‏,‏ حيث كنت أشعر بأن البعض قد توقف عند حادثة
استثنائية حجبت ولو للحظة تاريخا عريقا ممتدا‏,‏ ليس فقط في كتاب الصحافة
المصرية والعربية وإنما في كتاب الوطن ذاته‏.‏

لقد ارتبط تاريخ
الصحافة في مصر منذ البداية بتاريخ الأهرام التي تخطت سنواتها الـ‏133‏
عمر الكثير من دول العالم الكاملة العضوية في الأمم المتحدة‏,‏ وحين صدر
العدد الأول من الأهرام يوم‏5‏ أغسطس عام‏1876‏ بدا وكأن كل ما سبق من
إصدارات كان بمثابة ارهاصات لذلك الإصدار الضخم‏,‏ الذي قيد له أن يكون
المدرسة الصحفية الأكبر في الوطن العربي والتي خرجت خلال ما يزيد علي قرن
من الزمان أجيالا من رجال الصحافة‏,‏ نشأت علي أكتافهم عشرات الصحف في
مختلف أنحاء الوطن العربي‏.‏

فالمطبعة التي أحضرها بونابرت إبان
حملته علي مصر عام‏1789‏ والتي حملت لأول مرة الأحرف العربية لم تطبع إلا
النشرات الحكومية‏,‏ ثم شهدت بعد ذلك أول محاولة لإصدار جريدة حقيقية
وكانت تحمل عنوان الحوادث اليومية‏,‏ كان الغرض منها نشر تعاليم الثورة
الفرنسية علي الشعب المصري‏,‏ لذلك كان تأثيرها محدودا إلي أن قام محمد
علي بإصدار الوقائع المصرية والتي أصدر معها عام‏1824‏ قرارا يحظر إصدار
أي صحف أخري‏,‏ وهو ما جعل من الوقائع جريدة رسمية تفتقر الي مقومات
الصحافة الحقيقية‏.‏

أما البداية الفعلية للصحافة الحرة كما نعرفها
اليوم‏,‏ فجاءت بتولي الخديوي إسماعيل عام‏1863,‏ والذي شجع الملكية
الخاصة للصحف‏,‏ وهو ما جذب الكثير من المثقفين ورجال الفكر من الدول
العربية الأخري خاصة من بر الشام للمجيء الي مصر لاستثمار مناخ الحرية
السائد آنذاك‏,‏ وكان من بين هؤلاء الأخوان سليم وبشارة تقلا اللذان هاجرا
من لبنان وأنشآ الأهرام عام‏1876,‏ فصار هذا هو بداية تاريخ الصحافة
الحقيقية في مصر والوطن العربي‏.‏

علي أن أهم ما يميز الأهرام ليس
قدمه‏,‏ فكم من الأحجار الصماء تزيد عليها في القدم‏,‏ وانما تفوقها
المهني الذي جعلها طوال تاريخها أهم جريدة في مصر برغم الخط البياني
المتعرج الذي عادة ما يتسم به تطور أي منشأة كانت‏,‏ حيث كانت في فترات
أكثر ازدهارا من فترات أخري‏.‏

ومن دلائل التفوق المهني لـ
الأهرام‏,‏ أنها كانت دائما الجريدة الرائدة في استحداث الجديد‏,‏ وقد لا
يعرف البعض أن الأهرام كانت أول جريدة في الوطن العربي تعتمد أسلوب الحوار
الصحفي للحصول علي الأخبار‏,‏ كما كانت أول جريدة تطبع الصور علي صفحاتها
وكان ذلك عام‏1881,‏ وكانت أول جريدة تستخدم أسلوب المراسلين المعتمدين في
العواصم الأجنبية‏,‏ حيث كان مكتب الأهرام في باريس علي سبيل المثال أول
مكتب صحفي لجريدة عربية في العاصمة الفرنسية‏,‏ كما كانت الأهرام أول من
أدخل الطباعة بطريقة اللينوتيب في مصر عام‏1917,‏ وفي عام‏1968‏ حين تم
افتتاح المبني الجديد لـ الأهرام بشارع الجلاء كان الزائرون يؤمونه من
جميع أنحاء العالم ليشاهدوا واحدا من أكثر المباني الصحفية حداثة في
العالم‏.‏

ولقد سمع محررو الأهرام بأذنيهم أ‏.‏م‏.‏ روزنتال مدير
تحرير النيويورك تايمز يقول عن الأهرام في أثناء زيارته له عام‏1970‏ ليس
هناك في أمريكا مبني صحفي يقارن بهذا‏,‏ كما شهد له بذلك سير دنيس
هاملتون‏,‏ رئيس تحرير التايمز البريطانية الذي عاد إلي لندن ليقول لمحرري
الجريدة في أحد اجتماعات التحرير ـ وحسب ما نقلته الجريدة نفسها ـ اذا
أردتم تعلم بعض التواضع فاذهبوا لزيارة مبني الأهرام المذهل في القاهرة‏.‏

وقد
أصدر البروفيسور جون ميريل من جامعة ميسوري الأمريكية عام‏1968‏ مرجعه
الشهير صحافة الصفوة‏:‏ الصحف العظيمة في العالم والذي اعتمد فيه علي
دراسات واحصاءات مراكز البحث العالمية ووضع فيه الأهرام المصرية من بين
أعظم عشر صحف في العالم‏,‏ وأورد فيه فصلا كاملا عن الأهرام وتاريخها
وتفوقها المهني المشهود لها‏.‏

وفي كتاب آخر أصدرته جامعة ولاية
أيوا الأمريكية عام‏1979‏ بعنوان الصحافة والسياسة والسلطة وكتبه أستاذ
الصحافة بها منير ناصر الفلسطيني الأصل نقرأ‏:‏ إن الأهرام ليس مجرد مبني
صحفي رائع‏,‏ إنه مجمع إعلامي‏,‏ مركب‏,‏ ففيه أحدث آلات الطباعة التي وصل
إليها العالم‏,‏ وأول أجهزة الكمبيوتر التي دخلت مصر وآلات الجمع
البريطانية‏,‏ وهو يتمتع بقوة صحفية ضاربة لا تتمتع بمثلها جريدة أخري فهي
تتكون من أكبر الأسماء في الصحافة والثقافة والفكر والفن‏.‏ بالإضافة
لمركز الدراسات الاستراتيجية التي لا تحظي بها صحف أخري في العالم‏.‏

ولأن
الأهرام مدرسة فقد كان يؤمها الصحفيون من مختلف أنحاء العالم‏,‏ وقدامي
العاملين بالجريدة مازالوا يذكرون ذلك الصحفي اليوجوسلافي الكبير الذي كان
يعمل بجريدة بوربا الشهيرة والذي أمضي ثلاثة أشهر للتدريب في الأهرام‏,‏
فقد روي بنفسه آنذاك أن الرئيس تيتو استدعي رئيس تحرير الأهرام في ذلك
الوقت الأستاذ محمد حسنين هيكل في أثناء زيارة الرئيس عبدالناصر
ليوجوسلافيا وقال له في حضور عبدالناصر‏:‏ أنا سعيد جدا بكل ما يكتب عن
الأهرام‏,‏ ونحن لدينا في يوجوسلافيا صحيفة بوربا وهي صحيفة جيدة هي
الأخري‏,‏ لكن لا أحد في العالم ينقل عنها شيئا مثل الأهرام‏,‏ سأرسل لك
أحد كبار الصحفيين في بوربا لكي يتدرب عندكم في الأهرام‏.‏

ولقد
لمس العاملون في الأهرام هذا التفوق واستمتعوا بهذا الاسم الدولي الكبير
علي مدي تاريخهم‏,‏ فحين كنا شبابا صغارا لا يعرفنا أحد في الخارج كنا
نطرق أبواب الوزراء والمسئولين باسم الأهرام‏,‏ فكانت تفتح لنا الأبواب
قبل غيرنا‏,‏ ومازلت أذكر أنني لم أكن قد أكملت العام في الأهرام حين
سافرت عام‏1971‏ إلي الأمم المتحدة بنيويورك حيث أجريت أول حديث في العالم
مع السكرتير العام الجديد كورت فالدهايم والذي نقلتها الصحف العالمية عن
الأهرام وعلق عليه المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية‏,‏ ولم
أكن لأحصل علي هذا السبق العالمي لولا أن شهرة الأهرام ومكانته علي الساحة
الدولية كانت قد سبقتني الي المنظمة الدولية ففتحت لي باب السكرتير العام
مثله مثل العديد من الأبواب الأخري لأكبر الشخصيات التي التقي بها محررو
الأهرام من جيل الي جيل‏,‏ وهي الأبواب التي أخشي أن تغلقها بعض رياح
العواصف الحالية الهوجاء‏,‏ بعد أن انحدر مستوي التعامل بين بعض أبناء هذه
المدرسة الصحفية العتيدة الي ما يعف القلم عن وصفه‏.‏

لذا كنت أقول
لكل من يسألني عما يحدث في الأهرام الآن‏:‏ علينا أن نتذكر ما يمثله ذلك
الصرح العريق الذي تزهو به الصحافة العربية بين الأمم وأن نعرف كيف نفرق
بين الظرف الاستثنائي مهما كانت فجيعتنا فيه‏,‏ وبين الأصل الثابت لشجرة
الأهرام الباسقة التي لايمكن للرياح العاتية أن تقتلعها‏.‏