ثورة‏1919‏ ووفاة زعيمها في رأي نجيب محفوظ بقلم‏:‏ سامح كريم

من طرف لميس الأربعاء مارس 18, 2009 10:59 am

ثورة‏1919‏ ووفاة زعيمها في رأي نجيب محفوظ
بقلم‏:‏ سامح كريم

اذا
كانت ثورة‏1919‏ قد قامت من أجل الاستقلال ولم تحققه إلا بمعاهدة‏1936,‏
وهو تحقق يعتبر ناقصا‏..‏ ومع ذلك فليست هذه هي النقطة الجوهرية في مغزي
هذه الثورة وما تبعها من أحداث‏,‏ منها وفاة زعيمها سعد زغلول‏...‏ فالذي
يبهرنا من هذه الثورة هي روح الوطنية المصرية‏,‏ تلك التي ظهرت في الوعي
الجماعي المثير للدهشة‏,‏ الذي حرك جسم الأمة كله في تلقائية مذهلة فاجأت
حتي الثوار أنفسهم‏,‏ ولعلي أعود في ذلك الي حوار فكري كنت قد أجريته
بمجلة الكاتب مع نجيب محفوظ في ابريل عام‏1969‏ ليغطي خمس عشرة صفحة
ليطالعنا رأيه في هذه الثورة وزعيمها‏,‏ فمثلا عن الثورة يقول‏:‏ كنت أسير
مع ابن عم لي هو رجل كبير‏,‏ وأنا طفل صغير‏..‏ هو يمسك في يده مجموعة من
الأوراق المطبوعة لا شأن لي بها‏,‏ وأنا أمسك في يدي لعبة أو قطعة من
الحلوي‏..‏ هو يتوقف في أماكن معينة يسلم فيها بعضا من هذه الأوراق‏,‏
وأنا تبهرني المناظر التي في الشارع ولا أهتم بما يفعل ولا بمن يقابل‏,‏
إلا أنني عرفت فيما بعد أن مجموعة الأوراق التي كان يحملها هي منشورات
سرية للثورة‏,‏ وعرفت أنه كان يصحبني معه ليس للنزهة‏,‏ ولكن للتمويه
والاختفاء من عيون الرقباء لكيلا يكتشف أمره‏,‏

كذلك أذكر يوم
اشتركت في أول مظاهرة تأييد لسعد زغلول وكنت في مدرسة الحسينية بعد أن
بلغنا أن خلافا دب بين الملك فؤاد وبين سعد‏,‏ كانت هذه المظاهرة أول
تجربة لي مع العمل السياسي‏..‏ يومها قطعنا الطريق من العباسية الي ميدان
عابدين مستمرين في الهتافات‏,‏ وكانت قيادة المظاهرة تتم بيننا
بالتناوب‏,‏ وعندما جاء دوري لقيادة المجموعة التي كنت وسطها هتفت تحيا
سعد‏..‏ تحيا سعد حتي أن أحدهم صحح لي هتافاتي قائلا‏:‏ يحيا سعد وليس
تحيا سعد‏,‏ في الحقيقة كنت منساقا وراء هذه الجموع دون أن أدري‏..‏ وفي
ميدان عابدين راعتني لأول مرة مشاهدة هذه الكتل البشرية المتراصة الهاتفة
بحياة سعد ومبادئه‏.‏ والتي تدق أبواب القصر‏.‏

ومات سعد وفي ذلك
يقول نجيب محفوظ‏:‏ لن أنسي اليوم الذي استيقظت فيه من النوم علي بكاء
ونحيب وصراخ جماعي خارج حجرة نومي‏..‏ فزعت لأنني تصورت أن واحدا من أفراد
أسرتي قد مات‏,‏ والدي أو والدتي‏,‏ جلست القرفصاء شاخصا بنظري مرعوبا‏,‏
ولم تعد عندي أية جرأة للخروج من الحجرة ومعرفة السبب‏,‏ كان عمري في هذه
الفترة خمسة عشر عاما‏,‏ ويزداد البكاء والنحيب والصراخ خارج الحجرة‏,‏
فازداد أنا بكاء ونحيبا‏..‏ لكن هل أستمر علي هذا الحال دون أن أعرف
السبب؟ كان علي أن أسحب قدمي خارج الحجرة لأعرف لماذا يبكون؟ وعمن
ينتحبون؟‏..‏ خرجت فوجدت والداي وبقية أفراد الأسرة موجودون بالتمام
والكمال‏.‏ ولكن كلهم يبكون وينتحبون‏.‏

وأعيد النظر مرة ثانية
متفرسا وجوه الجميع في دقة وأهمس‏..‏ لكنهم مازالوا أحياء‏!!‏ إذن لماذا
يبكون؟ ويبدو أن ابن أختي قد لاحظ حيرتي فاندفع ناحيتي وقال وهو يبكي‏:‏
سعد باشا مات‏,‏ واتضح الموقف بأقسي ما كنت أتوقع‏,‏ وكان علي أن أنضم
إليهم في البكاء‏..‏ وفي اليوم التالي اشتركت مع زملائي في تشييع الجنازة
التي كانت بقدر ما تميزت بالضخامة تميزت بالحزن‏.‏ كان الرجال يبكون‏,‏
والصبية يصرخون والنساء ينتحبون‏..‏ باختصار كانت صورة كل شوارع القاهرة
كئيبة حزينة‏,‏ فقد ترك موت سعد فراغا كبيرا في سلوك الناس‏,‏ فكنت تلمح
احترامه وحبه بعد وفاته‏,‏ حتي إنني أذكر أن شقيقة الصديق عادل كامل‏,‏
كان محددا لها موعدا لزواجها في الأسبوع الذي مات فيه سعد‏,‏ بالفعل تم
القران ولكن في صمت تام‏,‏ وحتي بطاقة الدعوة لحضور الفرح التي نقرأ فيها
العبارات التقليدية المتبعة في هذه المناسبات كان علي غلافها صورة سعد
مجللة بشريط أسود مكتوب تحته بخط واضح أسود نشاطركم الأحزان في مصابنا
الأليم‏..‏ تصوروا دعوة لفرح وعزاء لموت في ورقة واحدة‏!,‏ بل انني أعرف
زيجات تأجلت شهورا‏,‏ كما أعرف انصراف الناس عن المسارح ذلك لأن سعد زغلول
كان المحور الذي يملك مفاتيح كل قلوب الأمة‏.‏