هوامش علي دفتر الأزمة المالية بقلم : السيد يسين

من طرف **احمد** الخميس مارس 19, 2009 10:20 am

هوامش علي دفتر الأزمة المالية
بقلم : السيد يسين

طلب
مني أحد الصحفيين الشبان أن يجري حوارا معي وسألته عن أي موضوع؟ فأجاب عن
الأزمة المالية وسألته هل هي أزمة مالية أم هي في حقيقتها أزمة اقتصادية؟
وهكذا بدأ الحوار‏!‏

والواقع أن التكييف الذي سارع خبراء الاقتصاد
الأمريكي والغربي خصوصا للانهيار الذي حدث هو أنها أزمة مالية نتيجة بروز
سوق اقتصادية افتراضية‏Virtual‏ قامت أساسا علي المضاربات والتوسع في منح
القروض وخصوصا القروض العقارية لمئات الآلاف من الأشخاص ثم عجز هؤلاء
نتيجة عوامل شتي عن سداد أقساط قروضهم وهكذا انهارت البنوك الكبري
والمؤسسات المالية العملاقة نتيجة لطغيان معاملات السوق الاقتصادية
الافتراضية علي السوق الاقتصادية الواقعية التي تقوم أساسا علي الانتاج
والاستهلاك والتبادل في حدود معروفة سلفا ومقننة‏.‏

ويمكن القول إن
ضخامة الأموال التي ضختها الحكومة الأمريكية نحو‏750‏ مليار دولار لانقاذ
البنوك والمؤسسات الرأسمالية ولجوء بعض الدول مثل بريطانيا للتأميم الجزئي
لبعض البنوك يقطع من وجهة نظرنا بأن الأزمة ليست مالية فقط‏,‏ ولكنها في
الواقع أزمة اقتصادية ونقصد بالأزمة الاقتصادية هنا حدوث خلل جسيم في
آليات عمل النموذج الرأسمالي المعولم الذي تبنته وفرضته الولايات المتحدة
الأمريكية تحت شعار الليبرالية الجديدة‏,‏ والذي يقضي بكف يد الدولة
نهائيا وبشكل مطلق عن التدخل في ادارة الاقتصاد وترك المسألة بالكامل
لحرية السوق القادرة علي تنظيم نفسها بحكم الآلية السحرية المزعومة التي
روج لها أنصار الرأسمالية وهي آلية العرض والطلب‏!‏

والدليل علي
عمق الأزمة الاقتصادية أنه لم يسبق إطلاقا في كل الأزمات المالية السابقة
منذ عام‏1945‏ وهو تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية أن تدخلت الدولة
الأمريكية بمثل ماتدخلت به لتنقذ السوق الرأسمالية الأمريكية بضخ ملايين
الدولارات مباشرة في شرايينه المتيبسة‏!‏

وهذا التدخل الصريح
والواسع المدي يكشف في الواقع عن السقوط المدوي لنموذج الرأسمالية
المعولمة بشكل عام‏!‏ فهذا النموذج سبق أن وضع دعاته مجموعة من القواعد
المقدسة التي لايجوز المساس بها وأهمها علي الاطلاق اعتقال دور الدولة
الاقتصادي ومنعها تماما من التدخل في السوق بل وتصفية القطاع العام في
الدول التي كانت شركاته لاتزال تعمل فيها من خلال برنامج للخصخصة والذي
فرض علي عديد من الدول من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تطبيقه
حتي لو أدي إلي اثار سلبية اجتماعية مدمرة مثل فصل ألوف العمال أو إحالتهم
الي المعاش المبكر أو هيمنة رأس المال الخاص علي القرار الاقتصادي للدول
بحكم تملكه الأصول الأساسية فيها‏.‏

ومانقوله ليس مجرد استنتاج
مماحدث بل لقد أكدته بعض التصريحات المهمة لقادة الدول الغربية‏,‏ وأبرزهم
ساركوزي رئيس فرنسا الذي صرح قائلا‏:‏ انتهي عهد الرأسمالية وهناك حاجة
لنموذج اقتصادي جديد‏!‏

والواقع أن الأزمة المالية الكبري التي
حدثت تؤكد تنبؤات عدد من كبار الاقتصاديين بأن الرأسمالية لن تستمر إلي
الأبد بحكم تناقضاتها الداخلية‏,‏ وأنها ستسقط في لحظة تاريخية معينة تحت
وطأة هذه التناقضات ومن أبرز هؤلاء الاقتصاديين القدامي جوزيف
شومبيتر‏1883‏ ـ‏1950‏ الذي ولد في مورافيا ودرس القانون والاقتصاد في
جامعة فيينا التي حصل منها علي درجة الدكتوراه عام‏1906‏ وبعد تاريخ حافل
خدم فيه كوزير نمساوي للمالية‏1919‏ ـ‏1920‏ ورئيس لبنك بيدرمان شغل كرسي
الأستاذية في جامعة بون‏1925‏ ـ‏1932.‏

ومع صعود النازي في ألمانيا
هاجر الي الولايات المتحدة الأمريكية وحاضر في جامعة هارفارد منذ‏1927‏
وبقي أستاذا فيها حتي وفاته عام‏1950.‏

ألف شومبيتر عديدا من الكتب
تناولت موضوعات متعددة مثل تاريخ التحليل الاقتصادي ونظرية التنمية
الاقتصادية الذي ناقش فيه موضوع الدورات الاقتصادية‏,‏ غير أن أشهر كتبه
علي الاطلاق هو الرأسمالية والاشتراكية‏,‏ والديموقراطية الذي نشره
عام‏1942.‏

وقد أتيح لي ـ وأنا في مطالع الشباب ـ أن أقرأ هذا
الكتاب المهم في ترجمته الفرنسية وأثر فكر شومبيتر تأثيرا عميقا في صياغة
اتجاهاتي النظرية إزاء الرأسمالية والاشتراكية ومازلت أذكر الحكم النهائي
الذي أصدره هذا الفيلسوف الاقتصادي الكبير عن الرأسمالية حين قرر أن
الرأسمالية ستسقط بحكم التناقض الجوهري بين جماعية عملية الانتاج وفردية
الاستحواذ علي الفائض‏!‏

ويقصد بذلك أن عملية الانتاج بحكم طبيعتها
تؤدي الي أن يشارك في العملية آلاف البشر من عمال وملاحظين ومشرفين
واداريين ومهندسين في حين أن من يحصل علي الفائض هم مجموعة محدودة من
الرأسماليين سواء كانوا من طبقة الملاك أو طبقة المديرين‏!‏

ويبدو
مصداق هذه الملاحظة العبقرية في تشريح طبيعة الرأسمالية كنظام اقتصادي في
أنه بعد أن ضخ الرئيس السابق جورج بوش أكثر من‏750‏ مليارا من الدولارات
لانقاذ البنوك الكبري والمؤسسات الرأسمالية العملاقة تبين بعد ذلك أن
مديري هذه البنوك والمؤسسات صرفوا لأنفسهم من هذا المبلغ‏11‏ مليار دولار
مكافآت شخصية لهم‏!‏ وكأنهم نهبوا هذا المال الذي هو حصيلة ملايين من
دافعي الضرائب بدلا من إنفاقه بصورة رشيدة علي تصحيح أخطاء الادارة في
البنوك والمؤسسات‏!‏

ولم يجد الرئيس أوباما تعليقا علي هذا التصرف
المنحرف سوي أن ذلك عمل لا أخلاقي‏!‏ مع أنه كان ينبغي تحويل هؤلاء
المديرين إلي محاكم الجنايات بتهمة تبديد واختلاس المال العام‏!‏ ولكن
يبدو أن هذه هي الطريقة التي تعمل بها الرأسمالية كما وصفها شومبيتر بدقة
جماعية في عملية الانتاج واستحواذ فردي علي الفائض‏!‏

وللتدليل علي
صحة تشخيصنا الأزمة بأنها اقتصادية وليست فقط مالية بمعني أنها نتيجة
منطقية للخلل في النموذج الرأسمالي نفسه دعونا نحلل بعض آراء شومبيتر التي
عرضها في كتابه عن طبيعة الرأسمالية ومصيرها المحتوم‏!‏

في الكتاب
نجد في أحد مواضعه نقدا يوجهه شومبيتر لكارل ماركس الذي قرر أن الرأسمالية
بحكم طبيعتها ستدمر‏,‏ نفسها غير أنه في نفس الوقت عرض فيه نظريته الشهيرة
التي يذكر فيها أن الرأسمالية تحمل بذور فنائها‏!‏

وهو لذلك يتساءل‏:‏ هل يمكن للرأسمالية أن تبقي للأبد كنظام اقتصادي؟ ويجيب عن هذا السؤال بالنفي ثم يقدم أسانيده‏.‏

غير
أنه لم يكتف بالتنبؤ بزوال الرأسمالية ولكنه أكد أن الاشتراكية هي النظام
الذي سيغضبها ولكن نظرا لاهتمامه بالديموقراطية طرح السؤال الرئيسي هل
يمكن للمجتمع الاشتراكي أن يكون ديموقراطيا أم أن التحول من الرأسمالية
إلي الاشتراكية سيعني بالضرورة نهاية الديموقراطية؟

في الاجابة عن
هذا السؤال يقرر شومبيتر أن الديموقراطية بالمعني الحقيقي للكلمة يستحيل
تطبيقها في أي مجتمع رأسماليا كان أو اشتراكيا غير أنها يمكن بمعني نسبي
أن تطبق حتي في مجتمع اشتراكي‏.‏

ويلفت النظر حقا في عرض شومبيتر
للرأسمالية أنه لاينتقدها بسطحية نقدا إجماليا بل إنه يشيد بإيجابياتها
وخصوصا في مجال تدعيمها الفكر العقلاني‏,‏ لأن العقلانية هي أحد الأسس
الجوهرية للرأسمالية سواء في مجال الاستثمار أو اختيار المشروعات المربحة
أو دراسات الجدوي أو فتح الأسواق لتوزيع السلع أو في النهاية في مجال
الاستثمار في مجال البحث والتطوير‏.‏

وهو يتابع بدقة تطورات
المشروع الرأسمالي ويلاحظ أنه في المرحلة الأولي كان الرأسمالي المالك هو
المدير غير أنه مع التوسع الرأسمالي وتعقد عمليات الانتاج ضعفت الوظيفة
الادارية للرأسمالي‏,‏ ونشأت طبقة جديدة هي طبقة المديرين‏Mangers‏ وهي
التي خصها المفكر المعروف بيرنهام بكتاب بالغ الأهمية بعنوان الثورة
الادارية وفي هذا الكتاب يتحدث عن كيف يتحول المديرون إلي ملاك من خلال
شرائهم لعدد كبير من أسهم الشركات التي يعملون فيها بحكم أجورهم ومكافآتهم
الضخمة‏,‏ ومن هنا فإن طبقة الملاك في الوقت الحاضر تتشكل أساسا من أصحاب
المشروعات كأفراد أو كأسر متكاملة‏.‏ والمديرين الذين يعملون لحسابهم
بعبارة أخري اختلطت الملكية بالادارة كما ظهر في الأزمة المالية في
الولايات المتحدة الأمريكية وأصبحت قرارات المديرين هي التي تحدد مصير
البنوك والمؤسسات ربحا أم خسارة وكما ظهر أخيرا فإن القرارات غير المحسوبة
لمديري البنوك والمؤسسات هي التي أدت أخيرا إلي الأزمة المالية العميقة‏.‏

وإذا
كان الشق لأول من نبوءة شومبيتر وهي الخاصة بأن الرأسمالية ستسقط قلاعها
ليس بفعل الثورة الاشتراكية التي يقوم بها طبقة من الثوريين كما سبق لكارل
ماركس أن تنبأ‏,‏ وإنما عن طريق التآكل التدريجي بحكم التناقضات الأساسية
في النموذج الرأسمالي ذاته فإن الشق الثاني لم يتحقق وهو التحول من
الرأسمالية إلي الاشتراكية‏.‏

بل إن دهاء التاريخ يكمن في أن
الاتحاد السوفيتي الذي كان الرمز الأكبر للاشتراكية قد سقط في بداية
التسعينيات تحت وطأة التناقضات الكامنة في النموذج الاشتراكي الثوري الذي
حاول الحزب البلشفي بعد الثورة في روسيا عام‏1917‏ تطبيقه باستيحاء أفكار
كارل ماركس‏.‏

وظن أنصار الرأسمالية أن هذا الانهيار تأكيد تاريخي
علي صحة توجهات النظام الرأسمالي كما عبر عن ذلك فوكوياما في كتابه الشهير
نهاية التاريخ‏,‏ إلا أن الأزمة المالية سرعان ماوقعت لتعلن نهاية عصر
الرأسمالية المعولمة وبداية لعصر اقتصادي جديد مازال غامض الملامح عصيا
علي التحديد‏,‏ لأنه يحتاج إلي عملية تأليف خلاقة بين حقوق الدولة
وواجباتها وحرية السوق المطلقة‏.‏

وهكذا فتح باب الاجتهاد
الاقتصادي من جديد ولن يكون ذلك بإعادة إنتاج المناظرات القديمة بين
الاشتراكية والديموقراطية ولكن علي أساس التنظير المباشر للواقع‏!‏